حكاية ناي ♔
05-12-2024, 11:20 AM
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون، تمر ببعض المؤمنين اليوم أحوالٌ عصيبة، وظروف كئيبة، فيُرى في ساحة دنياه تتجاذبه الكربات، وتطوِّقه المعضلات، مشكلات بيتية مع الزوجة والأولاد، وخلافات مجتمعية بينه وبين غيره، وأحوال اقتصادية متردية لا يرى فيها إلا الفقر مكشراً عن نابه نحوه، أو ماداً جناحيه على آفاق معيشته.
وفي أمر دينه يشكو الضيق وقلة المساعد، فالمنكرات فاشية، ومواطن الطاعة غير آهلة، والباطل ظاهر القوة والقدرة، والحق يعيش في ذلة وانكسار.
وفي هذه الأجواء المعتمة يعيش مع الأحزان والغموم والهموم في مدخله ومخرجه، وحركته وسكونه، وليله ونهاره.
ومما يزيده كمداً إلى كمده: أن يرى أهل الكفر والعصيان في سعة من الدنيا، وفسحة في فعل ما شاؤوا وترك ما أرادوا، فإن قوي إيمانه استوعب تلك المشاهد صابراً متذكراً قول الله تعالى: ﴿ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [آل عمران: 196-197]. وأيقن بقول الله تعالى-ولو طال الزمن-:﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [الأنعام: 44]. فعند ذلك يسلو في حزنه، وتخف عليه وطأة غمه.
وأما إن ضعف إيمانه، وقل يقينه بصحة طريقه فقد يصيبه الشك والضجر، ويستمر به الغم والهم.
عباد الله، إن طريق الإيمان مفروش بالتعب والعناء، وقلة الراحة والهناء، والغرض من ذلك: كي يُصقل إيمانُ سالكه، ويَصلُب عود صاحبه، ويظهر على سبيل الإيمان الدخلاء والمدَّعون وهم راجعون عن المضي فيه، فلا يستمر عليه إلا الصادقون الصابرون.
لا تظن-أيها المؤمن- أنك في ضيافة العناء وحدك، وأن المؤمنين قبلك لم يبتلوا كما ابتليت، ولم يتعبوا كما تعبت.
ففي سيرة رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم فصول من العناء والألم في العهدين: المكي والمدني، لقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ظلالها كثيراً من التعب والوجع، ومرت به أطوار من المشقة والنصب، من تأملها بإيمان راسخ، سلا في ضيقه، وهان عليه مصابه، وشُحذت بذلك همته في طريق الحق والصبر.
وإننا اليوم -بعون الله- سنذكر طرفًا من صنوف العناء التي مر بها نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ حتى يكون ذلك نبراسًا هاديًا في ظلمات العناء، يخفف من وطأة الشدائد، ويعين المؤمن على الثبات في مواقف البلاء، وليعلم المبتلى من المؤمنين من خلال ذلك أن سبيل الإيمان لابد فيها من لقاء المكاره في أمر الدين والدنيا، وأن العاقبة الحسنة، والراحة التامة، والسعادة التي لا حد له تنتظر المؤمنين الثابتين في نهاية الطريق.
أيها الأحباب الفضلاء، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صُلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)[2].
إن المتتبع لسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجد أنه قد ذاق من صنوف العناء ألوانًا؛ وقد كان ذلك حتى يرفع الله درجته، ويكون قدوة للمؤمنين في طريق الإيمان. يقول الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
فمن صور العناء التي لقيها سيد الأنبياء في مكة: تكذيب قومه له، فقد جاءهم بالحق من عند الله فردوه عليه وقالوا عنه: إنه كذاب، مع أنه عاش بينهم وهو موصوف فيهم بالصادق الأمين! فما أشدها من كلمة تقع في أذن الصادق حينما يقال له: إنه كاذب!
ولتكذيبهم له أعرض أكثرهم عن الاستجابة لما يدعوهم إليه من الحق، فكان ذلك مما يحزنه ويغمه؛ لحرصه عليهم، وخوفه من موتهم على ذلك؛ رأفة منه بهم. لكن الله تعالى كان يسليه عن حزنه، ويخفف من عنائه بنزول الآيات التي تنهاه عن الحزن:
قال تعالى:﴿ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ [النمل: 70].
ولم يسلم نبي الله عليه الصلاة والسلام –وهو الطاهر النقي الكريم-من سب المشركين وطعنهم وتهمهم الباطلة في حقه، فكان ذلك صورة أخرى من صور العناء؛ فقد رموه بالسحر والكهانة والجنون والأخذ من أساطير الأولين، والتعاون مع غيره فيما جاء به من القرآن، بل لم يسلم مع ذلك من سخريتهم وتحقيرهم واستهزائهم.
قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الفرقان: 4-5].
عباد الله، إن إيذاء المشركين لم يقف عند القول، بل تجاوزه إلى الفعل؛ قال عبد الله بن مسعود: "إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم [يعني: عقبة بن أبي معيط ]، فجاء به فنظر حتى سجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووضعه على ظهره بين كتفيه وأنا أنظر لا أغير شيئًا لو كان لي منعة، قال: فجعلوا يضحكون، ويحيل بعضهم على بعض، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساجد لا يرفع رأسه"[3].
وفي الطائف بقي رسول الله عشرة أيام يدعوهم حتى قالوا: اخرج من بلادنا، وأغروا به سفهاءهم، فلما أراد الخروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، فوقفوا له صفين وجعلوا يرمونه بالحجارة، وبكلمات من السفه، ورجموا عراقيبه، حتى اختضب نعلاه بالدماء.
فلما جلس واطمأن دعا بالدعاء المشهور الذي يدل على امتلاء قلبه كآبة وحزنًا مما لقي من الشدة، وأسفًا على أنه لم يؤمن به أحد، قال: (اللهم إليك أشكو ضَعْف قُوَّتِي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تَكِلُني؟ إلى بعيد يَتَجَهَّمُنِي؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سَخَطُك، لك العُتْبَى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)[4].
ومن صور العناء الذي لقيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة:
ما كان يلقاه من بعض أقاربه وجيرانه من الأذى؛ فإن" أبا لهب كان يجول خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موسم الحج والأسواق لتكذيبه...وربما كان لا يقتصر على التكذيب، بل كان يضربه بالحجر حتى يَدمى عقباه...وكانت امرأة أبي لهب أم جميل لا تقل عن زوجها في عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كانت تحمل الشوك، وتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى بابه ليلًا، وكانت امرأة سليطة تبسط فيه لسانها، وتطيل عليه الافتراء والدس، وتؤجج نار الفتنة، وتثير حربًا شعواء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولذلك وصفها القرآن بحمالة الحطب .
ولما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق وفي يدها فِهْرٌ [ أي: بمقدار ملء الكف ] من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر، أين صاحبك؟ قد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما والله إني لشاعرة، ثم قالت:
مُذَمَّمًا عصينا * وأمرَه أبينا * ودِينَه قَلَيْنا...
كان أبو لهب يفعل كل ذلك وهو عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجاره، وكان بيته ملصقًا ببيته، كما كان غيره من جيران رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يؤذونه وهو في بيته، وهم: أبو لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط، وعدي بن حمراء الثقفي، وابن الأصداء الهذلي، فكان أحدهم يطرح عليه -صلى الله عليه وآله وسلم- رحم الشاة وهو يصلي، وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجرًا ليستتر به منهم إذا صلى، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا طرحوا عليه ذلك الأذى يخرج به على العود، فيقف به على بابه، ثم يقول: ( يا بني عبد مناف، أي جوار هذا؟!) ثم يلقيه في الطريق[5].
ومن صور العناء الذي لقيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة:
رؤيته بعض أصحابه يعذَّبون ويذلون ولا يستطيع أن يصنع في نصرهم شيئًا! غير أنه كان يوصيهم بالصبر، ويبشرهم بالفرج القريب.
جاء في السيرة النبوية: "وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه- وكانوا أهل بيت إسلام- إذا حميت الظهيرة يعذِّبونهم برمضاء مكة، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: صبراً آل ياسر، موعدكم الجنة. فأما أمه فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام. وكان أبو جهل الفاسق الذي يغري بهم في رجال من قريش إذا سمع بالرجل قد أسلم له شرف ومنعة أنَّبه وأخزاه، وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك! لنسفهن حِلمك، وَلَنُفَيّلَنّ رأيك، ولنضعن شرفك، وإن كان تاجراً قال: والله لَنُكَسّدَنّ تجارتك، ولنهلكن مالك، وإن كان ضعيفاً ضربه وأغرى به"[6].
أيها الأحباب الفضلاء، ومن صور العناء الذي لقيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة: حصار الشِّعب الذي بقي فيه مع بني هاشم وبني المطلب ثلاث سنوات، وما لقي فيه معهم من العزلة الاجتماعية، والجوع والشدة حتى بلغهم الجهد، والتجأوا إلى أكل الأوراق والجلود، وحتى كان يسمع من وراء الشعب أصواتُ نسائهم وصبيانهم يصيحون من الجوع!!.
ومن صور العناء الذي لقيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة:
موت الأحباب؛ فقد مات في مكة أبناء رسول الله من خديجة رضي الله عنها، وهما: القاسم وعبد الله، ثم ماتت أمهما خديجة، ثم مات عمه أبو طالب الذي كان يحوطه ويحميه. وقد وقعت حادثة موت خديجة وأبي طالب" خلال أيام معدودة، فاهتزت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لم تزل تتوالى عليه المصائب من قومه؛ فإنهم تجرأوا عليه وكاشفوه بالنكال والأذى بعد موت أبي طالب، فازداد غمًا على غم"[7].
ثم خُتمت فصول عناء مكة بإخراج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها، حينما اضطره الكفار إلى ذلك؛ فقد اتفقت قريش على قتل رسول الله، وتدبير خطة للتخلص منه، فخرج رسول الله عليه الصلاة والسلام من مكة مهاجراً وهي أحب البقاع إليه. ومما يدل على تعلق قلبه بمكة: أنه لما خرج منها " وقف ونظر إلى البيت قال: والله إنك لأحب أرض الله إليّ، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت"[8].
عباد الله، وهكذا يُطوى العهد المكي الذي دام ثلاث عشرة سنة، لقي فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألوانًا متعددة من المكاره، وصنوفًا متنوعة من العناء، فواجهها بالصبر والثبات، والتفاؤل والاستبشار بفرج الله تعالى، وحسن عاقبته، حتى بزغت شمس الهجرة بعزة الإسلام وأهله.
ومن هنا يتعلم المؤمن-أيها الفضلاء- المواقف الصحيحة إزاء البلاء، والسلوَّ في عنائه بما جرى لسيد الأنبياء، ويتخذ من الصبر والمصابرة شعارا، ومن الأمل بزوال الضيق دثارا؛ فإن الله لن يضيع عبده المؤمن الصادق الثابت في مهب العناء، فالفرج ينتظره ولو طالت عليه الشدة.
نسأل الله تعالى أن يجعل لنا ولكل مسلم في كل مكان من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
أيها المسلمون، هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، وهناك أسس دولة الإسلام الأولى، وتنفس المسلمون الصعداء؛ حيث صاروا في عزة ومنعة، واستطاعوا العمل بشرائع الإسلام علنًا من غير خوف.
غير أن ذلك لا يعني انقطاع فصول معاناة الداعي الأول رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم؛ بل إنه قد انتقل من مرحلة لها صور معينة من العناء إلى مرحلة أخرى لها صور أخرى من هذا البلاء؛ لأن مهمة النبي عليه الصلاة والسلام مهمة عظيمة لا تسلم من المكاره الخاصة والعامة، ولأن حياة المؤمن مهما حصل فيها انفراج من شدائد كبار لابد أن تبقى بعض المنغصات في الحياة؛ لأن هذا هو طبع هذه الدنيا التي لا يصفو فيها عيش من كدر، ولكون الراحة لا تتم للمؤمن إلا في الجنة. قال ابن القيم رحمه الله: " ليس للعابدين مستراح إلا تحت شجرة طوبى، ولا للمحبين قرار إلا يوم المزيد، فمثِّلْ لقلبك الاستراحة تحت شجرة طوبى يَهُن عليك النَّصَب، واستحضر يوم المزيد يَهُن عليك ما تتحمل من أجْله"[9].
لهذا حصلت في المدينة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم صور من العناء، فمنها:
إيذاء المنافقين واليهود، وقد تعددت أذية هؤلاء الأعداء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قولاً وفعلاً:
يقول تعالى عن المنافقين: ﴿ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 61]، وقال: ﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8].
ومن أذيتهم -وخاصة زعيمهم عبد الله بن أبي-: التعاون مع اليهود والمشركين ضد المسلمين، وخلخلة الصف المسلم وتخذيله، وبث الشائعات، والطعن في عرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما في حادثة الإفك، ومحاولة اغتياله، كما في غزوة تبوك.
وأما اليهود فمن صور العناء الذي لقيه رسول الله منهم: إعراضهم عن قبول دعوته مع علمهم بصدق نبوته، وسبهم وهجاؤهم له وطعنهم فيه، وغدرهم لعهودهم معه، ومجاهرتهم بالعداوة وتعاونهم مع مشركي قريش، وحربهم لرسول الله والمسلمين، ونشر الدعايات الكاذبة في المدينة. ومنها: إشاعة مقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بدر، ومحاولة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من مرة.
أيها الأحباب الكرام، ومن صور العناء الذي لقيه رسول الله في المدينة: الخوف من وصول طلائع قرشية إلى المدينة لاغتياله، فكان أول مقدمه المدينة بقي مدة لا يبيت إلا محروسًا، خاصة أن قريشًا كانت قد عزمت على قتله فأفلت منهم يوم الهجرة، ولم يزالوا مصممين على ذلك، ولكن الله عصم رسوله الكريم منهم.
ومن صور العناء الذي لقيه رسول الله في المدينة أيضًا:
تحمل مؤونة جهاد أعداء الدين في غزواته وسراياه، ابتداء بغزوة الأبواء وانتهاء بغزوة تبوك، فكان صلى الله عليه وآله وسلم يتلقى أخبار الكفار الذين يريدون الإغارة على المدينة، فيجهز المقاتلين ويرسم الخطة العسكرية، ويبعث الجيش وربما قاده بنفسه، وخرج إلى أرض المعركة وقاتل بسيفه ويجرح جروحًا بليغة، كما حصل في غزوة أحد.
ومن صور العناء الذي لقيه رسول الله في المدينة أيضًا: موت بعض أقاربه وأصحابه وآل بيته، رضي الله عنهم أجمعين.
ففي المدينة مات جميع من تبقى من أولاده ما عدا فاطمة رضي الله عنها؛ فقد ماتت بناته الثلاث: زينب ورقية وأم كلثوم. ومات ابنه إبراهيم، وهو آخر أبنائه ولادةً وآخرهم موتًا في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإبراهيم يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟! فقال: ( يا ابن عوف، إنها رحمة ). ثم أتبعها بأخرى فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ( إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزنون)[10]. إنها-يا سادة- مشاعرُ الأبوة على فلذة الكبد، ودموع اللوعة على آخر أبنائه!.
وممن فقدهم في المدينة بالموت: زوجته زينب بنت خزيمة رضي الله عنها.
وممن فقدهم أيضًا: شهداء أحد، وخاصة عمة حمزة رضي الله عنه، فإنه "لما رأى ما بحمزة ـ عمه وأخيه من الرضاعة ـ اشتد حزنه...قال ابن مسعود: ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باكياً قط أشد من بكائه على حمزة بن عبد المطلب، وضعه في القبلة، ثم وقف على جنازته وانتحب حتى نَشَع من البكاء"[11]. يعني: حتى شهق.
وممن فقدهم في المدينة بالموت وحزن عليهم حزنًا شديداً: أصحاب بئر معونة وأصحاب الرجيع، وهم القراء الذين بعثهم رسول الله لتعليم بعض القبائل الإسلامَ والقرآن، فغدروا بهم وقتلوهم، وكان عددهم ثمانين صحابيًا رضي الله عنهم.
" وقد تألم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأجل هذه المأساة، ولأجل مأساة الرجيع اللتين وقعتا خلال أيام معدودة تألما شديداً، وتغلب عليه الحزن والقلق، حتى دعا على هؤلاء الأقوام والقبائل التي قامت بالغدر والفتك في أصحابه"[12]. وبقي ثلاثين صباحًا يقنت يدعو على القبائل الغادرة وهي رِعْل وذَكْوَان ولَحْيَان وعُصَيَّة.
أيها الإخوة الكرام، ومن صور العناء الذي لقيه رسول الله في المدينة أيضًا: ما عاناه من سياسة الناس، وتعليمهم ودعوتهم، ومتابعة أحوالهم، وما مسه من الجوع قبل خيبر، حتى إنه ربما مرت به أحوال مسغبة شدَّ على بطنه حجراً وحجرين من الجوع!.
فيا من يشكو العناء، ويئن من وطأة البلاء، خفِّف ثقل ما أنت فيه بما سمعت عن خير البشر صلى الله عليه وآله وسلم، واصبر على ما نزل بك، واثبت على طريق الحق، واعلم أن لعنائك- الذي صبرت عنده واحتسبت ذلك لدى مولاك- عاقبةً حسنة ستنسيك آلام العناء الذي مسّك. وتذكّر أن الشدائد إلى انفرج، وأن ظلام الليالي إلى انبلاج:
خَلِيلَيَّ لَا وَاَللَّهِ مَا مِنْ مُلِمَّةٍ
تَدُومُ عَلَى حَيٍّ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ
فَإِنْ نَزَلَتْ يَوْمًا فَلَا تَخْضَعَنَ لَهَا
وَلَا تُكْثِرِ الشَّكْوَى إذَا النَّعْلُ زَلَّتِ
فَكَمْ مِنْ كَرِيمٍ قَدْ بُلِيْ بِنَوَائِبٍ
فَصَابَرَهَا حَتَّى مَضَتْ وَاضْمَحَلَّتِ
وَكَمْ غَمْرَةٍ هَاجَتْ بِأَمْوَاجِ غَمْرَةٍ
تَلَقَّيْتُهَا بِالصَّبْرِ حَتَّى تَجَلَّتِ[13]
هذا وصلوا وسلموا على الهادي البشير...
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون، تمر ببعض المؤمنين اليوم أحوالٌ عصيبة، وظروف كئيبة، فيُرى في ساحة دنياه تتجاذبه الكربات، وتطوِّقه المعضلات، مشكلات بيتية مع الزوجة والأولاد، وخلافات مجتمعية بينه وبين غيره، وأحوال اقتصادية متردية لا يرى فيها إلا الفقر مكشراً عن نابه نحوه، أو ماداً جناحيه على آفاق معيشته.
وفي أمر دينه يشكو الضيق وقلة المساعد، فالمنكرات فاشية، ومواطن الطاعة غير آهلة، والباطل ظاهر القوة والقدرة، والحق يعيش في ذلة وانكسار.
وفي هذه الأجواء المعتمة يعيش مع الأحزان والغموم والهموم في مدخله ومخرجه، وحركته وسكونه، وليله ونهاره.
ومما يزيده كمداً إلى كمده: أن يرى أهل الكفر والعصيان في سعة من الدنيا، وفسحة في فعل ما شاؤوا وترك ما أرادوا، فإن قوي إيمانه استوعب تلك المشاهد صابراً متذكراً قول الله تعالى: ﴿ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [آل عمران: 196-197]. وأيقن بقول الله تعالى-ولو طال الزمن-:﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [الأنعام: 44]. فعند ذلك يسلو في حزنه، وتخف عليه وطأة غمه.
وأما إن ضعف إيمانه، وقل يقينه بصحة طريقه فقد يصيبه الشك والضجر، ويستمر به الغم والهم.
عباد الله، إن طريق الإيمان مفروش بالتعب والعناء، وقلة الراحة والهناء، والغرض من ذلك: كي يُصقل إيمانُ سالكه، ويَصلُب عود صاحبه، ويظهر على سبيل الإيمان الدخلاء والمدَّعون وهم راجعون عن المضي فيه، فلا يستمر عليه إلا الصادقون الصابرون.
لا تظن-أيها المؤمن- أنك في ضيافة العناء وحدك، وأن المؤمنين قبلك لم يبتلوا كما ابتليت، ولم يتعبوا كما تعبت.
ففي سيرة رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم فصول من العناء والألم في العهدين: المكي والمدني، لقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ظلالها كثيراً من التعب والوجع، ومرت به أطوار من المشقة والنصب، من تأملها بإيمان راسخ، سلا في ضيقه، وهان عليه مصابه، وشُحذت بذلك همته في طريق الحق والصبر.
وإننا اليوم -بعون الله- سنذكر طرفًا من صنوف العناء التي مر بها نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ حتى يكون ذلك نبراسًا هاديًا في ظلمات العناء، يخفف من وطأة الشدائد، ويعين المؤمن على الثبات في مواقف البلاء، وليعلم المبتلى من المؤمنين من خلال ذلك أن سبيل الإيمان لابد فيها من لقاء المكاره في أمر الدين والدنيا، وأن العاقبة الحسنة، والراحة التامة، والسعادة التي لا حد له تنتظر المؤمنين الثابتين في نهاية الطريق.
أيها الأحباب الفضلاء، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صُلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)[2].
إن المتتبع لسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجد أنه قد ذاق من صنوف العناء ألوانًا؛ وقد كان ذلك حتى يرفع الله درجته، ويكون قدوة للمؤمنين في طريق الإيمان. يقول الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
فمن صور العناء التي لقيها سيد الأنبياء في مكة: تكذيب قومه له، فقد جاءهم بالحق من عند الله فردوه عليه وقالوا عنه: إنه كذاب، مع أنه عاش بينهم وهو موصوف فيهم بالصادق الأمين! فما أشدها من كلمة تقع في أذن الصادق حينما يقال له: إنه كاذب!
ولتكذيبهم له أعرض أكثرهم عن الاستجابة لما يدعوهم إليه من الحق، فكان ذلك مما يحزنه ويغمه؛ لحرصه عليهم، وخوفه من موتهم على ذلك؛ رأفة منه بهم. لكن الله تعالى كان يسليه عن حزنه، ويخفف من عنائه بنزول الآيات التي تنهاه عن الحزن:
قال تعالى:﴿ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ [النمل: 70].
ولم يسلم نبي الله عليه الصلاة والسلام –وهو الطاهر النقي الكريم-من سب المشركين وطعنهم وتهمهم الباطلة في حقه، فكان ذلك صورة أخرى من صور العناء؛ فقد رموه بالسحر والكهانة والجنون والأخذ من أساطير الأولين، والتعاون مع غيره فيما جاء به من القرآن، بل لم يسلم مع ذلك من سخريتهم وتحقيرهم واستهزائهم.
قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الفرقان: 4-5].
عباد الله، إن إيذاء المشركين لم يقف عند القول، بل تجاوزه إلى الفعل؛ قال عبد الله بن مسعود: "إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم [يعني: عقبة بن أبي معيط ]، فجاء به فنظر حتى سجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووضعه على ظهره بين كتفيه وأنا أنظر لا أغير شيئًا لو كان لي منعة، قال: فجعلوا يضحكون، ويحيل بعضهم على بعض، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساجد لا يرفع رأسه"[3].
وفي الطائف بقي رسول الله عشرة أيام يدعوهم حتى قالوا: اخرج من بلادنا، وأغروا به سفهاءهم، فلما أراد الخروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، فوقفوا له صفين وجعلوا يرمونه بالحجارة، وبكلمات من السفه، ورجموا عراقيبه، حتى اختضب نعلاه بالدماء.
فلما جلس واطمأن دعا بالدعاء المشهور الذي يدل على امتلاء قلبه كآبة وحزنًا مما لقي من الشدة، وأسفًا على أنه لم يؤمن به أحد، قال: (اللهم إليك أشكو ضَعْف قُوَّتِي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تَكِلُني؟ إلى بعيد يَتَجَهَّمُنِي؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سَخَطُك، لك العُتْبَى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)[4].
ومن صور العناء الذي لقيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة:
ما كان يلقاه من بعض أقاربه وجيرانه من الأذى؛ فإن" أبا لهب كان يجول خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موسم الحج والأسواق لتكذيبه...وربما كان لا يقتصر على التكذيب، بل كان يضربه بالحجر حتى يَدمى عقباه...وكانت امرأة أبي لهب أم جميل لا تقل عن زوجها في عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كانت تحمل الشوك، وتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى بابه ليلًا، وكانت امرأة سليطة تبسط فيه لسانها، وتطيل عليه الافتراء والدس، وتؤجج نار الفتنة، وتثير حربًا شعواء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولذلك وصفها القرآن بحمالة الحطب .
ولما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق وفي يدها فِهْرٌ [ أي: بمقدار ملء الكف ] من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر، أين صاحبك؟ قد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما والله إني لشاعرة، ثم قالت:
مُذَمَّمًا عصينا * وأمرَه أبينا * ودِينَه قَلَيْنا...
كان أبو لهب يفعل كل ذلك وهو عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجاره، وكان بيته ملصقًا ببيته، كما كان غيره من جيران رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يؤذونه وهو في بيته، وهم: أبو لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط، وعدي بن حمراء الثقفي، وابن الأصداء الهذلي، فكان أحدهم يطرح عليه -صلى الله عليه وآله وسلم- رحم الشاة وهو يصلي، وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجرًا ليستتر به منهم إذا صلى، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا طرحوا عليه ذلك الأذى يخرج به على العود، فيقف به على بابه، ثم يقول: ( يا بني عبد مناف، أي جوار هذا؟!) ثم يلقيه في الطريق[5].
ومن صور العناء الذي لقيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة:
رؤيته بعض أصحابه يعذَّبون ويذلون ولا يستطيع أن يصنع في نصرهم شيئًا! غير أنه كان يوصيهم بالصبر، ويبشرهم بالفرج القريب.
جاء في السيرة النبوية: "وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه- وكانوا أهل بيت إسلام- إذا حميت الظهيرة يعذِّبونهم برمضاء مكة، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: صبراً آل ياسر، موعدكم الجنة. فأما أمه فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام. وكان أبو جهل الفاسق الذي يغري بهم في رجال من قريش إذا سمع بالرجل قد أسلم له شرف ومنعة أنَّبه وأخزاه، وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك! لنسفهن حِلمك، وَلَنُفَيّلَنّ رأيك، ولنضعن شرفك، وإن كان تاجراً قال: والله لَنُكَسّدَنّ تجارتك، ولنهلكن مالك، وإن كان ضعيفاً ضربه وأغرى به"[6].
أيها الأحباب الفضلاء، ومن صور العناء الذي لقيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة: حصار الشِّعب الذي بقي فيه مع بني هاشم وبني المطلب ثلاث سنوات، وما لقي فيه معهم من العزلة الاجتماعية، والجوع والشدة حتى بلغهم الجهد، والتجأوا إلى أكل الأوراق والجلود، وحتى كان يسمع من وراء الشعب أصواتُ نسائهم وصبيانهم يصيحون من الجوع!!.
ومن صور العناء الذي لقيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة:
موت الأحباب؛ فقد مات في مكة أبناء رسول الله من خديجة رضي الله عنها، وهما: القاسم وعبد الله، ثم ماتت أمهما خديجة، ثم مات عمه أبو طالب الذي كان يحوطه ويحميه. وقد وقعت حادثة موت خديجة وأبي طالب" خلال أيام معدودة، فاهتزت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لم تزل تتوالى عليه المصائب من قومه؛ فإنهم تجرأوا عليه وكاشفوه بالنكال والأذى بعد موت أبي طالب، فازداد غمًا على غم"[7].
ثم خُتمت فصول عناء مكة بإخراج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها، حينما اضطره الكفار إلى ذلك؛ فقد اتفقت قريش على قتل رسول الله، وتدبير خطة للتخلص منه، فخرج رسول الله عليه الصلاة والسلام من مكة مهاجراً وهي أحب البقاع إليه. ومما يدل على تعلق قلبه بمكة: أنه لما خرج منها " وقف ونظر إلى البيت قال: والله إنك لأحب أرض الله إليّ، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت"[8].
عباد الله، وهكذا يُطوى العهد المكي الذي دام ثلاث عشرة سنة، لقي فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألوانًا متعددة من المكاره، وصنوفًا متنوعة من العناء، فواجهها بالصبر والثبات، والتفاؤل والاستبشار بفرج الله تعالى، وحسن عاقبته، حتى بزغت شمس الهجرة بعزة الإسلام وأهله.
ومن هنا يتعلم المؤمن-أيها الفضلاء- المواقف الصحيحة إزاء البلاء، والسلوَّ في عنائه بما جرى لسيد الأنبياء، ويتخذ من الصبر والمصابرة شعارا، ومن الأمل بزوال الضيق دثارا؛ فإن الله لن يضيع عبده المؤمن الصادق الثابت في مهب العناء، فالفرج ينتظره ولو طالت عليه الشدة.
نسأل الله تعالى أن يجعل لنا ولكل مسلم في كل مكان من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
أيها المسلمون، هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، وهناك أسس دولة الإسلام الأولى، وتنفس المسلمون الصعداء؛ حيث صاروا في عزة ومنعة، واستطاعوا العمل بشرائع الإسلام علنًا من غير خوف.
غير أن ذلك لا يعني انقطاع فصول معاناة الداعي الأول رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم؛ بل إنه قد انتقل من مرحلة لها صور معينة من العناء إلى مرحلة أخرى لها صور أخرى من هذا البلاء؛ لأن مهمة النبي عليه الصلاة والسلام مهمة عظيمة لا تسلم من المكاره الخاصة والعامة، ولأن حياة المؤمن مهما حصل فيها انفراج من شدائد كبار لابد أن تبقى بعض المنغصات في الحياة؛ لأن هذا هو طبع هذه الدنيا التي لا يصفو فيها عيش من كدر، ولكون الراحة لا تتم للمؤمن إلا في الجنة. قال ابن القيم رحمه الله: " ليس للعابدين مستراح إلا تحت شجرة طوبى، ولا للمحبين قرار إلا يوم المزيد، فمثِّلْ لقلبك الاستراحة تحت شجرة طوبى يَهُن عليك النَّصَب، واستحضر يوم المزيد يَهُن عليك ما تتحمل من أجْله"[9].
لهذا حصلت في المدينة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم صور من العناء، فمنها:
إيذاء المنافقين واليهود، وقد تعددت أذية هؤلاء الأعداء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قولاً وفعلاً:
يقول تعالى عن المنافقين: ﴿ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 61]، وقال: ﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8].
ومن أذيتهم -وخاصة زعيمهم عبد الله بن أبي-: التعاون مع اليهود والمشركين ضد المسلمين، وخلخلة الصف المسلم وتخذيله، وبث الشائعات، والطعن في عرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما في حادثة الإفك، ومحاولة اغتياله، كما في غزوة تبوك.
وأما اليهود فمن صور العناء الذي لقيه رسول الله منهم: إعراضهم عن قبول دعوته مع علمهم بصدق نبوته، وسبهم وهجاؤهم له وطعنهم فيه، وغدرهم لعهودهم معه، ومجاهرتهم بالعداوة وتعاونهم مع مشركي قريش، وحربهم لرسول الله والمسلمين، ونشر الدعايات الكاذبة في المدينة. ومنها: إشاعة مقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بدر، ومحاولة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من مرة.
أيها الأحباب الكرام، ومن صور العناء الذي لقيه رسول الله في المدينة: الخوف من وصول طلائع قرشية إلى المدينة لاغتياله، فكان أول مقدمه المدينة بقي مدة لا يبيت إلا محروسًا، خاصة أن قريشًا كانت قد عزمت على قتله فأفلت منهم يوم الهجرة، ولم يزالوا مصممين على ذلك، ولكن الله عصم رسوله الكريم منهم.
ومن صور العناء الذي لقيه رسول الله في المدينة أيضًا:
تحمل مؤونة جهاد أعداء الدين في غزواته وسراياه، ابتداء بغزوة الأبواء وانتهاء بغزوة تبوك، فكان صلى الله عليه وآله وسلم يتلقى أخبار الكفار الذين يريدون الإغارة على المدينة، فيجهز المقاتلين ويرسم الخطة العسكرية، ويبعث الجيش وربما قاده بنفسه، وخرج إلى أرض المعركة وقاتل بسيفه ويجرح جروحًا بليغة، كما حصل في غزوة أحد.
ومن صور العناء الذي لقيه رسول الله في المدينة أيضًا: موت بعض أقاربه وأصحابه وآل بيته، رضي الله عنهم أجمعين.
ففي المدينة مات جميع من تبقى من أولاده ما عدا فاطمة رضي الله عنها؛ فقد ماتت بناته الثلاث: زينب ورقية وأم كلثوم. ومات ابنه إبراهيم، وهو آخر أبنائه ولادةً وآخرهم موتًا في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإبراهيم يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟! فقال: ( يا ابن عوف، إنها رحمة ). ثم أتبعها بأخرى فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ( إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزنون)[10]. إنها-يا سادة- مشاعرُ الأبوة على فلذة الكبد، ودموع اللوعة على آخر أبنائه!.
وممن فقدهم في المدينة بالموت: زوجته زينب بنت خزيمة رضي الله عنها.
وممن فقدهم أيضًا: شهداء أحد، وخاصة عمة حمزة رضي الله عنه، فإنه "لما رأى ما بحمزة ـ عمه وأخيه من الرضاعة ـ اشتد حزنه...قال ابن مسعود: ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باكياً قط أشد من بكائه على حمزة بن عبد المطلب، وضعه في القبلة، ثم وقف على جنازته وانتحب حتى نَشَع من البكاء"[11]. يعني: حتى شهق.
وممن فقدهم في المدينة بالموت وحزن عليهم حزنًا شديداً: أصحاب بئر معونة وأصحاب الرجيع، وهم القراء الذين بعثهم رسول الله لتعليم بعض القبائل الإسلامَ والقرآن، فغدروا بهم وقتلوهم، وكان عددهم ثمانين صحابيًا رضي الله عنهم.
" وقد تألم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأجل هذه المأساة، ولأجل مأساة الرجيع اللتين وقعتا خلال أيام معدودة تألما شديداً، وتغلب عليه الحزن والقلق، حتى دعا على هؤلاء الأقوام والقبائل التي قامت بالغدر والفتك في أصحابه"[12]. وبقي ثلاثين صباحًا يقنت يدعو على القبائل الغادرة وهي رِعْل وذَكْوَان ولَحْيَان وعُصَيَّة.
أيها الإخوة الكرام، ومن صور العناء الذي لقيه رسول الله في المدينة أيضًا: ما عاناه من سياسة الناس، وتعليمهم ودعوتهم، ومتابعة أحوالهم، وما مسه من الجوع قبل خيبر، حتى إنه ربما مرت به أحوال مسغبة شدَّ على بطنه حجراً وحجرين من الجوع!.
فيا من يشكو العناء، ويئن من وطأة البلاء، خفِّف ثقل ما أنت فيه بما سمعت عن خير البشر صلى الله عليه وآله وسلم، واصبر على ما نزل بك، واثبت على طريق الحق، واعلم أن لعنائك- الذي صبرت عنده واحتسبت ذلك لدى مولاك- عاقبةً حسنة ستنسيك آلام العناء الذي مسّك. وتذكّر أن الشدائد إلى انفرج، وأن ظلام الليالي إلى انبلاج:
خَلِيلَيَّ لَا وَاَللَّهِ مَا مِنْ مُلِمَّةٍ
تَدُومُ عَلَى حَيٍّ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ
فَإِنْ نَزَلَتْ يَوْمًا فَلَا تَخْضَعَنَ لَهَا
وَلَا تُكْثِرِ الشَّكْوَى إذَا النَّعْلُ زَلَّتِ
فَكَمْ مِنْ كَرِيمٍ قَدْ بُلِيْ بِنَوَائِبٍ
فَصَابَرَهَا حَتَّى مَضَتْ وَاضْمَحَلَّتِ
وَكَمْ غَمْرَةٍ هَاجَتْ بِأَمْوَاجِ غَمْرَةٍ
تَلَقَّيْتُهَا بِالصَّبْرِ حَتَّى تَجَلَّتِ[13]
هذا وصلوا وسلموا على الهادي البشير...