مشاهدة النسخة كاملة : النفاق والمنافقين (1)


حكاية ناي ♔
09-22-2024, 06:41 PM
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون! نصَب أدلة مخلوقاته، وأقام براهين آياته، وتحبب بنعمه وآلائه. ولكن أكثر الناس لا يعلمون. أحمده سبحانه على ما أولاه من عظيم إنعامه، وما اختصّنا به من معرفته وإكرامه، وهدانا لتوحيده وإسلام الوجه له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله الصادق المأمون. اللهم صلّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين هم بسنته مستمسكون وسلم تسليما كثيراً.



أما بعد عباد الله:

أُوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى الذي ما من غائبةٍ في السماء ولا في الأرض إلا ويعلمها ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فأصلحوا عباد الله بواطنكم كما تهتمون بصلاح ظواهر كم، فإن الله تعالى لا ينظر إلى الصور والأجسام، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال.



إخوة الإيمان: إننا نعيش اليوم زماناً انقلبت فيه الموازين، وانعكست فيه المعاييرُ، زمن يسمى فيه العالم جاهلاً، والجاهل عالماً، والبليد الغشاش المزور شاطراً ذكياً، والمخلص المجدّ بليداً، والشريف وضيعاً، والوضيعُ شريفاً، والخائنُ أميناً، والأمينُ خائناً، والفاسد المفسد صالحاً مصلحاً، والصالح المصلح فاسداً مفسداً، والفاسق الفاجر الإباحي متحرراً، والمتحرر المتعفف الحيي مكبوتاً.. واللئيم كريماً، والكريمُ لئيماً، والجبان الراضي بالذِّلَّةِ والمَهانةِ، الساكت عن الجهر بكلمة الحق، المهادنُ للباطل رجلاً رصيناً متعقلاً، والناطق بكلمة الحق، الصامد في وجه الطغيان والاستبدادِ والفسادِ مُتسيِّباً متهوراً متسلِّطاً، والمثقف المبدع شيطاناً، والشيطان المضلل مثقفاً.



وكذلك يُسمى المجاهد إرهابياً، والإرهابي مجاهداً، والمستعمِر المغتصِب بريئاً ومضطهداً، والمستعمَرُ المشرد المقتَّلُ المدافع عن أرضه ووطنه وعرضه مخرباً ومجرماً.



والعاريةُ العارضةُ لعرضها وشرفها، المتبرجة بزينتها في الشوارع، المتمردة على دينها تقدمية، والساترة لجسمها، المحافظة على عرضها، الملتزمة أوامر ربِّها رجعية متخلفة.



والمتمسِّكُ بآداب الإسلام في كل أحواله متطرفاً متعصباً، والمتفلِّتُ المتحللُ من قيود الدين، المبتدع، المعرض عن القرآن والسنةِ، المفسِّر لهما بأهوائه مسلماً معتدلاً.



أيها الإخوة: مصطلحات كثيرة دخلها تشويشٌ وتشويهٌ، والتشويشُ أصبح له (رجالٌ)، وللتشويه وسائلُ كثيرةٌ ومتعددةٌ، مقروءةٌ ومسموعةٌ ومرئيةٌ، ووراءَ كل ذلك كتائبُ وعقولٌ وطاقاتٌ مدرَّبةٌ ومبرمجةٌ وموجَّهةٌ ومزودةٌ بإمكاناتٍ رهيبةٍ تطلق القذائفَ ليلاً ونهاراً، صباحاً ومساءً.



إننا نعيش هذه الأيامَ زمنَ النفاق، نعيش النفاق بنوعيه: الأكبرُ وهو الاعتقادي، والأصغرُ وهو العملي.



لقد ذاق المسلمون صنوف الأذى من هؤلاء المنافقينَ المُنْدَسِّينَ في صفوفهم منذ ظهور الدولة الإسلامية بقيادة محمد - صلى الله عليه وسلم - وحتى يومِنا هذا.



والله تبارك وتعالى صنَّف عباده في أول سورة البقرة إلى مؤمنين وكافرين ومنافقين، وأنزل في ذلك عشرين آية في أول هذه السورة.



منها ثلاثُ آياتٍ في وصف المؤمنين، وآيتان في وصف الكافرين، وثلاث عشرة آية في وصف المنافقين، بيَّن فيها أحوالهم، وكشف أسرارهم، وصور طبائعَهم ونفسياتِهم وطريقةَ تفكيرهم ومنطقَهم.



وقد تحدّث القرآن عن المنافقين في مواضعَ كثيرة. وفي سورٍ عديدةٍ، وأكثر ما تحدث عنهم في سورة التوبة، حتى سُميت الفاضحة، لأنها فضحتِ المنافقين وكشفت أحوالَهم وبَيَّنَتْ أسرارَهم ودواخلَهم وخُطَطَهم، ثم خُصِّصَتْ سورة بأكملها للمنافقين، كشفت أيضًا أسرارَهم وأساليبَهم، وبينت شيئًا من خُطَطِهِم، سمِّيَتْ سورة المنافقين.



كلُّ هذا لتحذير المجتمع المسلم من خطر هذا العدو الهدّام الذي يحاربهم من داخلهم، ويسعى إلى تدميرهم خِلسةً وخُفيةً، حتى لا تراه الأعينُ، ولكن يجب أن تكتشفه البصائر.



إن أهمَّ سِمَةٍ وأخطرَ صفةٍ لهذا العدو الهدَّام المدمر هي صفة الخفاء، فهو داخلَ المجتمع المسلم، يُظْهِرُ التعاطفَ معه، ويُخْفِي كفرَه وعداوتَه معه في باطنِه، فالمكرُ والخداعُ والكذبُ هي أساليبه وأدواته، لكن إذا سنحتِ الفرصة ووجد ثغرةً ينفذ منها لضربِ المسلمين فإنه يكون حينئذ أشدَّ قسوةً ووحشيةً ونكايةً للمؤمنين من أي عدو مجاهر، قال تعالى: ﴿ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [التوبة: 8].



إن النفاق مرضٌ خطير وخزيٌ كبير، إنه داءٌ مهلك، ما فشا في أمة من الأمم إلا كان نذير دمارها وخرابها وسبيل شقائها وعذابها، وما حل في نفس إلا كان دليلاً على مهانتها وضياع مكانتها وعزتها وفقدان شرفها وشهامتها، والنفاق عارٌ في الدنيا، ونار في الآخرة، قال المولى تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ﴾ [النساء: 145].



وقال الله تعالى: ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [التوبة: 67].



والنفاق على نوعين إما اعتقادي ومعناه الكفر، وهو أن يظهر العبد الإيمان بالله واليوم الآخر وهو لا يؤمن بهما، وإما سلوكي وهو من أعظم الذنوب وعلاماته مبينة في الحديث: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان» [متفق عليه].



وقد أجمع العلماء على أن المنافقين هم أشد خطراً على الإسلام من الكفار لأن الكافر واضح فتحذره، أما المنافق فهو مع المسلمين في صلاتهم وتجمعهم ومع الكافرين في كيدهم للإسلام وأهله، ويكون عارفاً بعورات المسلمين ومواضع ضعفهم.



عباد الله: بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.



عباد الله:

النفاق مبني على الكذب والمسلم مأمور أن يكون صادقاً واضحاً صريحاً لا يخاف في الله لومة لائم، ففي إسلامنا نتعلم الرجولة، وقول الحق أمام الظلمة والطغاة قال - صلى الله عليه وسلم -: «سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله» [تحقيق الألباني (حسن) انظر حديث رقم (3675) في صحيح الجامع.]، وقال بأبي وأُمي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم فقد تودع منها» [أخرجه أحمد (2/163، 190) عن عبد الله بن عمرو.].



وفي إسلامنا نتعلم قول الحق في صحبتنا، للأثر: (إذا صحب الرجل أخاه ساعة من ليل أو نهار، إلا سُئل يوم القيامة أقام حق الله فيها أم ضيع؟) يقول عمر رحمه الله: (رحم الله امرأً أهدى إلى أخيه عيوبه)، فليس في إسلامنا مجاملة ولا تغاضي ولا سكوت عن الحق لمراعاة مشاعر الآخرين، إن كان في مراعاتها انتهاك لحرمات الله أو منهجه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» [صحيح مسلم: كتاب الإيمان (49) عن أبي سعيد رضي الله عنه.]..



والمسلم يتوخّى الصدق حتى في تعامله مع الأطفال ومزاحه: «رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة تُنادي على طفل لها: تعال أعطيك؟ فقال: وما تعطيه؟ قالت: تمرة، قال: والله لو لم تكن لكُتبت عليك كذبة» [رواه أحمد في المسند (3/447)، وأبو داود في الأدب].



والمنافقون لم يكن لهم وجود في مكة حيث الإسلام محارب والرسول مضطهد، ومن يبايعه كان يبايعه على الموت، وإنما ظهر المنافقون في أجواء العافية في المدينة، وكانوا يعتذرون عن الجهاد بأعذار واهية يبررون به كذبهم وجبنهم.



وأما سمات المنافقين:

أولاً: التثاقل في أداء الطاعات، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 142]، وهم يتثاقلون عن صلاتين بيّنها المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا» [متفق عليه]، يقول ابن عمر رضي الله عنهما: كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن. فكيف لا وهي السبيل إلى الفوز بالنظر إلى وجه الله الكريم في الآخرة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنكم سترون ربكم كرؤيتكم القمر لا تُضامونفي رؤيته (أي لا تشكون) فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» [متفق عليه].



ثانياً: نقض العهد:

الإنسان لا يستقيم على حال واحد كما قال تعالى: ﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ﴾ [الانشقاق: 19]، فرخاءٌ بعد شدة، وشدة بعد رخاء، وغنى بعد فقر، وفقر بعد غنى، وصحة بعد سقم، وسقم بعد صحة، وعلى العبد أن يكون صابرًا في الضراء شاكرًا في العافية، وهذا رجل يسمى ثعلبة الصحيح أنه ليس ممن شهد بدراً لم يصبر على فقره وقال: «يا رسول الله أُدعو الله أن يرزقني مالًا فقال له: «يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه»، فقال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يرزقني مالاً لأوتين كل ذي حق حقه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: « اللهم أرزق ثعلبة مالاً»، فأتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة، فنزل أحد أوديتها حتى ترك الصلاة إلا الجمعة ثم ترك الجمعة فلما آن أوان الزكاة، بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - من يجمعها فنظر في كتاب رسول الله فقال: والله إنها الجزية والله إنها لأخت الجزية، اذهبوا فلا أعطي شيئا»، عاد الرسل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسمعوه يقرأ قول الله تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [التوبة: 75 - 77].



وحديث ثعلبة يرويه ابن جرير كما في مختصر ابن كثير، وفي أمتنا الكثير الكثير من أمثال ثعلبة ازداد عطاء الله لهم فازدادوا بُخلا وطغيانًا وكفرًا، بل وإنفاقًا لها فيما حرّم الله ورسوله.



عباد الله: هذا شيءٌ من صفات المنافقين التي ذكرها الله تعالى في كتابه المبين، ليبيّن للمؤمنين حتى يحذروا من النفاق وصفات المنافقين ويعرفوا أعداءهم حقيقة، إن المنافقين شرٌ على الإسلام والمسلمين من اليهود والنصارى والكافرين، وذلك لأن أولئك قد أعلنوا الكفر،، فالمؤمنون جميعاً يدركون عداوتهم ويتكتلون ضدهم، وأي فرد منا يتعاون معهم يُتهم بالخيانة، أما حين يكون منافقاً فإنه لا يدرك عداوته وخطره على الأمة إلا القليل من المسلمين وحينما يتولى المنافقون السلطة على المسلمين ويعملون أيديهم في المخلصين منهم قتلاً وتشريداً لا ينكر ذلك إلا القليل من المؤمنين، وسائر المسلمين إما جاهل بخطرهم على الإسلام والمسلمين، وإما عالم بذلك ولكنه يداهنهم لمصلحته الخاصة دفعاً لشرهم أو رجاء خيرهم، ومن هنا كان المنافقون أخطر على الأمة الإسلامية فيما إذا تولوا شيئاً من السلطة عليه مما إذا تولاها الكفار..



هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].



اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.



سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

سنينى معاك
09-22-2024, 06:41 PM
بارك الله فيك
وجزاك الفردوس الاعلى ان شاء الله
دمت بحفظ الله ورعايته