حكاية ناي ♔
09-22-2024, 06:43 PM
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ربي لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر المؤمنين، يذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أممًا من الناس من ذرية آدم عليه الصلاة والسلام، بينما كانت قرى عامرة بحصونها ومياهها وبساتينها، وما أمدها الله عز وجل من الرزق، وما بسط عليها من النعم لكن حينما عصت وتمرَّدت، وأبت أن تعترف لله بالنعم، فتؤدي شكرها، أخذ الله عز وجل تلك الأمم أخذ عزيز مقتدرٍ، فسلب منهم النعمة وأبادهم أيما إبادة، لم يكن ذلك بظلم، بل هو ربنا سبحانه أعدل العادلين قال جل وعلا: ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [النحل: 118]، وقال سبحانه: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46].
ويقول الله في الحديث القدسي: ﴿ يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا ﴾[1]، لم يكن ذلك بظلم منه سبحانه؛ لأنه تنزه عن الظلم، بل هو سبحانه عدل يأمر بالعدل؛ كما قال جل وعلا: ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].
فالله يأمر بالعدل، لكن إذا شذ العباد وغيَّروا ما في أنفسهم، هناك تحل العقوبة، وينزل الله بأسه على الظالمين، انتقام الله من الظالمين؛ يقول جل وعلا حاكيًا عن الأمم: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ * وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 36 - 40].
هذه قرى تسمى بالمدائن أرسل الله إلى تلك المدائن نبيًّا عظيمًا، إنه نبي الله شعيب، وكان هؤلاء الناس قد ابتُلوا بقطع الطريق، وابتلوا بتطفيف الميزان، فذهب إليهم هذا النبي الكريم يدعوهم إلى التوحيد، وإلى عدم الإفساد في الأرض، وإلى عدم بخس الميزان، فقابلوه بالتكذيب والاستهزاء والسخرية، فأنزل الله عقوبته على قرى المدائن بأسرها، أرسل الله إليهم الرجفة، فحركت عليهم الأرض من تحتهم، فأصبحوا وقد ماتوا عن بكرة أبيهم؛ قال الله جل وعلا: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [العنكبوت: 36 - 37].
وهكذا أمة هود عليه الصلاة والسلام، وهي قرى قوم عاد، أرسل الله إليهم نبيه هود عليه الصلاة والسلام داعية إلى التوحيد، محذرًا لهم من الشرك، وكانوا قومًا قد أعطاهم الله من كمال الأجسام والقوة كما ذكر الله قصتهم في آية أخرى: ﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾ [الشعراء: 128ـ 130]، لكنهم قابلوا نبي الله هودًا بالتكذيب، فأرسل الله عز وجل عليهم إعصارًا، فخرَّبت قريتهم وأبادتهم أجمعين؛ كما قال الله في كتابه الكريم: ﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ ﴾ [الحاقة: 6ـ8].
حينما جاءتهم الرياح ظنُّوا بقوتهم أن يدفعوها عن ذريتهم وعن نسائهم، فتحصنوا بين جبلين، لكن الرياح أتتهم من أسفلهم فنكستهم على رؤوسهم؛ كما قال الله: ﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ﴾ [الحاقة: 7 - 8].
وهكذا نبي الله صالح أرسله الله إلى أمة ثمود، أرسله إلى تلك القرى وإلى تلك المدائن، يأمرهم بالتوحيد ويحذِّرهم من الشرك، يأمرهم بالطاعة ويحذرهم من المعصية، فأبوا أن يستجيبوا له قال سبحانه: ﴿ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ﴾ [الحاقة: 5].
ذلك بأنهم طالبوه بمعجزة عظمى، فسأل ربه معجزة ليقابلهم بها، فأخرج الله له ناقة من صخرة عظيمة، فكانوا يشربون لبنها يومًا وهي تشرب من مياههم يومًا، ويستغلون شرب الماء في اليوم الثاني، لكنهم قابلوا ذلك بالتكذيب، كما ذكر الله عز وجل ذلك في القرآن؛ إذ يقول لهم النبي الكريم: ﴿ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ﴾ [الشمس: 13]، فإذا بهم يعقرونها، فدمدم الله عز وجل عليهم، فأنزل أليم عذابه عليهم، وخرَّب ديارهم حينما قابلوا نبيهم بالتكذيب؛ قال الله: ﴿ فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [ الأعراف77 - 78].
وهكذا فرعون كان يقول لأهل مصر: ﴿ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الزخرف: 51].
فأرسل الله إليه موسى داعية إلى التوحيد، داعية إلى الخير بكل رفقٍ وبكل بيان؛ كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 44]، لكنه أبى أن يستجيب وتفلسف أمام نبي الله موسى، ﴿ قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى ﴾ [طـه: 49]، وقَالَ لموسى أيضًا: ﴿ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى ﴾ [طـه: 51].
فحينها دعا موسى ربه وأمن هارون على دعاء موسى، فرفعت الدعوة إلى الله، فاستجابها رب العباد، فأهلك فرعون بالغرق؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ [يونس: 88 - 92].
فهذا الطوفان وهذا الغرق وهذه الأمواج، إنما حلت بفرعون بعد أن أرسل الله إليه موسى، فوجَّهه توجيهًا إلى الله، لكنه أبى أن يتابع موسى، وأن يكون من أتباعه، فتجبر وتكبر عياذًا بالله، فبغَضه الله وبغَضه جبريل، حتى إن جبريل يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: (لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر، فأدُسه في فم فرعون مخافةَ أن تُدركه الرحمة)[2].
وذلكم قارون الذي أمده الله بأصناف المال، لكنه لم يؤدِّ شكرها، بل إنه قابلها بالكفران وقابلها بالجحود والنكران، فسلبها الله عز وجل منه، ولم يكن بذلك من الشاكرين، فأخذها الله سبحانه وتعالى منه، بل زلزل الأرض من تحت قدميه، وخسف به سبحانه وتعالى حينما طغى وتجبر، وتعالى على أرحم الراحمين؛ قال جل وعلا: ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾ [القصص: 76 - 82]؛ أي: عجبًا لا يفلح الكافرون أبدًا إن أُعطي النعم قابلها بالجحود.
ويبيِّن ذلك نبينا في حديث رواه البخاري ومسلم؛ قال صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يمشي في حلة تُعجبه نفسه مرجل جمته، إذ خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)[3].
وهكذا ما حصل من قوم لوط أرسل الله إليهم نبيه لوطًا عليه الصلاة والسلام، وحذَّرهم فداحة الجريمة التي يقومون بها من الشذوذ الجنسي، لكنهم استهزؤوا به، وسخروا به وبدعوته، فماذا كان من الله؟ أرسل الله ملكًا من ملائكته العظام، فيرفع قرى قوم لوط إلى عنان السماء حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم وصياح دَيَكتهم؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ﴾ [الشعراء: 173، النمل: 58]، وقال تعالى: ﴿ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ﴾ [الحجر:74].
جعل الله عاليها سافلها، فكانت عقوبتهم من أعظم العقوبات ومن أبدع العقوبات؛ لأنهم جاؤوا بجريمة بديعة لم يسبقوا إليها، عكسوا الفطرة التي ما أذن الله عز وجل بعكسها، فكان انتقام الله من الظالمين؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾ [هود: 83].
ولقد أمد الله قومًا من الناس[ وهم قوم سبأ] بأصناف من المال، لكنهم قابلوه بالنكران، ولم يؤدوا شكر النعم، فأرسل الله عز وجل سيلًا أخذ ثمارهم وخرَّب حصونهم، وأباد مزارعهم، فكانوا عظة وعبرة إلى قيام الساعة؛ قال سبحانه: ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ ﴾ [سبأ: 15 - 17].
مزق الله مملكة سبأ، وما كان عندهم من أصناف الأرزاق والأموال، ولقد ذكر بعض علماء التفسير أن المرأة كانت تنطلق صباح يومها ومكتلها على رأسها، فلا تعود إلا وقد امتلأ ذلكم المكتل من أصناف الثمار التي تتساقط إلى المكتل، دون أن تتعب المرأة أو الرجل بقطفها، لكنهم لم يشكروا تلكم النعم، والنعمة إذا شُكرت قرَّت وإذا كُفرت فرَّت.
إذا كنت في نعمة فارعها
فإن المعاصي تزيل النعم
وداوم عليها بشكر الإله
فإن الإله سريع النقم
يقول سبحانه: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].
عباد الله، هدَّد الله عز وجل عباده، هددهم الله بإرسال الطوفان والغرق، وبضرب الزلازل والابتلاءات إن خالفوا أمره؛ قال جل وعلا: ﴿ أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ﴾ [الملك: 16]، ﴿ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ﴾؛ أي: أأمنتم مكر الله الذي هو القاهر فوق عباده أن يزلزل الأرض من تحت أقدامكم، وكان هذا عبارة عن عبر وعظات يرسله الله تخويفًا إلى الخلق لا كما يقوله بعض الطبائعين، أو من لا علم عنده: إنها براكين أو زلازل طبيعية، كلا والله إنها عقوبات ربانية، إنه عذاب يرسله الله على من شاء من عباده تخويفًا؛ كما قال الله: ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا ﴾ [الإسراء59].
ما يرسل الله عز وجل بالآيات إلا من أجل تخويف عباده، ولقد جاء في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رصي الله عنه لما نزلت هذه الآية: (﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ﴾ [الأنعام: 65]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجهك)، قال: (أو من تحت أرجُلكم)، قال: (أعوذ بوجهك)، ﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾ [الأنعام: 65]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا أهون أو هذا أيسر)[4].
وبلغ من خوف نبينا صلى الله عليه وسلم من أن يهلكه بالزلازل، أو أن تخسف الأرض من تحت قدميه أن كان يستعيذ بالله صباحًا ومساءً من الزلزلة، ومن الخسف ومن تغيُّر الحال؛ روى الإمام أبو داود في سننه وكذا ابن ماجه أيضًا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصبح أو أمسى يقول: (اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي)[5].
قال الإمام الشافعي رحمه الله [6]: والمراد بالاغتيال من تحتي أن تصفو الزلال.
هكذا بلغ الحال بنبينا صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ بالله من الخسف، ويستعيذ به من الزلزلة؛ ذلك أمر الله الذي عناه بكتابه: ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].
فإذا حصل التغيير من القلب، وإذا ترجم ذلك إلى الواقع أو لم يترجم، فإن الله يرسل عقوبته على من شاء من عباده، نسأل الله أن يصرف عنا الزلازل والفتن ما ظهر منها وما بطن، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه يغفر لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين:
عباد الله، اتقوا الله سبحانه وتعالى وراقبوه، واعلموا يا عباد الله أن ما حصل من الزلازل والفيضانات في كثير من دول الشرق في الهند وإندونسيا وفي سريلانكا، وكثير من بلاد العالم الإسلامي وغيره، إنما هو ابتلاء من الله سبحانه وتعالى وعذاب أرسله سبحانه وتعالى؛ لأنه سبحانه وتعالى يقول: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41]، وقال سبحانه: ﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [السجدة: 21].
ولقد أخبرنا من يتابع شبكة المعلومات الدولية شبكة الإنترنت - أن هذه الفيضانات إنما عمت كثيرًا من السواحل التي كان فيها من البارات والفساد، وأخبرني شاهد آخر بأنه قال لي: لقد رأينا المساجد العامرة في إندونسيا وفي بلاد الهند، لم يحصل لها ولا لمن فيها شيء إلا مسجد أُصيب ببعض الشقوق، إن دل هذا فإنما يدل على أن الفساد إن حل في الأرض أرسل الله عقوبته، هذا أمر، وأمر آخر أنه من علامات قرب قيام الساعة إرسال الزلازل؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج، وهو القتل)[7]، وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: (إنها لن تقوم الساعة حتى ترون قبلها عشر آيات، فذكر الدخان والدجال والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم ﴾[8]، فهذا الخسف الحاصل ليس بعلامة كبرى من علامات قيام الساعة، لكنه من العلامات التي تحصل قبل قيام الساعة، من أجل أن يرعوي الناس، من أجل أن يتوب الناس، من أجل أن يرجعوا إلى الله سبحانه وتعالى، فإنه بكثرة الفساد وبكثرة الفحشاء والمنكر، ينزل البلاء وتكثر الزلازل والفتن، فتوبة عباد الله توبة إلى الله سبحانه وتعالى، وهناك بعض الدراسات تقول: إن بعض الدول الإسلامية التي على مشارف البحار كعدن وما جاورها مهددةً أيضًا بالفيضانات، وهذا أمر إن أراده الله كان، فلا يحتاج إلى دراسة أو نظرية، فإن أمر الله بين الكاف والنون، فعودة إلى الله عباد الله، ومحافظةً على الصلاة، ومحافظةً على أداء الزكاة، ومحافظة على أعمال البر توبة نصوحة.
قدم لنفسك توبة مرجوةً
قبل المعاد وقبل حبس الألسن
بادر بها غلقَ النفوس فإنه
ذُخر وغنم للمنيب المحسن
عباد الله، اتقوا الله عز وجل، واعلموا أنه يا عباد الله في مثل هذه الأوضاع الراهنة التي يعيشها العالم الإسلامي، هناك بعض الجرائد في مثل هذه الأوضاع لا تزال تعلن سفاهتها، وتُعلن قبح قولتها على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا حاصل في كثير من الصحف التي تنشر أسبوعيًّا في بلدنا الحبيب، فواجب على الكتاب والأدباء أن يتقوا الله عز وجل سواء عند الظروف القاسية أو عند غيرها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفْك في الشدة)[9]، فوقت الرخاء يجب على المسلمين أن يتعرفوا إلى ربهم، فإذا ما نزل البلاء ورفع الدعاء، كانت الاستجابة من الله سبحانه وتعالى.
عباد الله، إن الكثير من دول العالم لا سيما دول الخليج، قد تفاعلت مع هذه الأوضاع ومع هذه الزلازل والضحايا بالتبرعات، ولقد جاءتنا رسالة قبل أن أصعد على منبري هذا من شركة سبيستل، تعلن أن بعض دول الخليج قد بلغ تبرعها اثنين وثمانين مليون دولار، فهذا مبلغ طيب لإخواننا الذين أصيبوا بالزلازل والفيضانات، وإن حكومتنا الراشدة ندبت المسلمين في هذا البلد أن يتعاونوا لإخوانهم ويتبرعوا لهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)[10].
ولا ننسى عباد الله ما حصل من الزلازل في الثمانينات في بلدنا هذا، وما حصل من التبرعات من كثير من دول العالم، إنه الجزاء من جنس العمل، فإذا ما حصل لا سمح الله لنا أو لغيرنا، كان إخواننا يعاملونا بنفس المعاملة.
أسأل الله عز وجل أن يرفع عن المسلمين الزلازل والفتن، وأن يرفع عنا الغلاء والزنا والربا، وأن يرفع عنا كل بلاء.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
اللهم لا تدع لنا ذنبًا إلا غفرته ولا هَمًّا إلا فرجته، ولا دينًا إلا قضيتَه.
اللهم احفَظ عبادك المؤمنين، اللهم احفظ عبادك المؤمنين.
اللهم احفظ عبادك المؤمنين اللهم احفظنا واحفظ بلادنا.
اللهم احفظنا مِن فوقنا ومن تحتنا وعن أيماننا وعن شمائلنا.
اللهم إنا نعوذ بك من السوء ومن يوم السوء ومن جار السوء ومن ساعة السوء.
اللهم اصرف السوء عن عبادك المؤمنين، اللهم من أراد بالمسلمين سوءًا، فاشغله في نفسه واجعل كيده في نحره.
اللهم من أراد الخير للإسلام والمسلمين فثبِّته يا أرحم الراحمين، واجعل له ذكرًا في العالمين.
عباد الله: ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].
اذكروا الله يذكُركم، واشكروه على نِعمه يَزِدْكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ربي لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر المؤمنين، يذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أممًا من الناس من ذرية آدم عليه الصلاة والسلام، بينما كانت قرى عامرة بحصونها ومياهها وبساتينها، وما أمدها الله عز وجل من الرزق، وما بسط عليها من النعم لكن حينما عصت وتمرَّدت، وأبت أن تعترف لله بالنعم، فتؤدي شكرها، أخذ الله عز وجل تلك الأمم أخذ عزيز مقتدرٍ، فسلب منهم النعمة وأبادهم أيما إبادة، لم يكن ذلك بظلم، بل هو ربنا سبحانه أعدل العادلين قال جل وعلا: ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [النحل: 118]، وقال سبحانه: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46].
ويقول الله في الحديث القدسي: ﴿ يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا ﴾[1]، لم يكن ذلك بظلم منه سبحانه؛ لأنه تنزه عن الظلم، بل هو سبحانه عدل يأمر بالعدل؛ كما قال جل وعلا: ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].
فالله يأمر بالعدل، لكن إذا شذ العباد وغيَّروا ما في أنفسهم، هناك تحل العقوبة، وينزل الله بأسه على الظالمين، انتقام الله من الظالمين؛ يقول جل وعلا حاكيًا عن الأمم: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ * وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 36 - 40].
هذه قرى تسمى بالمدائن أرسل الله إلى تلك المدائن نبيًّا عظيمًا، إنه نبي الله شعيب، وكان هؤلاء الناس قد ابتُلوا بقطع الطريق، وابتلوا بتطفيف الميزان، فذهب إليهم هذا النبي الكريم يدعوهم إلى التوحيد، وإلى عدم الإفساد في الأرض، وإلى عدم بخس الميزان، فقابلوه بالتكذيب والاستهزاء والسخرية، فأنزل الله عقوبته على قرى المدائن بأسرها، أرسل الله إليهم الرجفة، فحركت عليهم الأرض من تحتهم، فأصبحوا وقد ماتوا عن بكرة أبيهم؛ قال الله جل وعلا: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [العنكبوت: 36 - 37].
وهكذا أمة هود عليه الصلاة والسلام، وهي قرى قوم عاد، أرسل الله إليهم نبيه هود عليه الصلاة والسلام داعية إلى التوحيد، محذرًا لهم من الشرك، وكانوا قومًا قد أعطاهم الله من كمال الأجسام والقوة كما ذكر الله قصتهم في آية أخرى: ﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾ [الشعراء: 128ـ 130]، لكنهم قابلوا نبي الله هودًا بالتكذيب، فأرسل الله عز وجل عليهم إعصارًا، فخرَّبت قريتهم وأبادتهم أجمعين؛ كما قال الله في كتابه الكريم: ﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ ﴾ [الحاقة: 6ـ8].
حينما جاءتهم الرياح ظنُّوا بقوتهم أن يدفعوها عن ذريتهم وعن نسائهم، فتحصنوا بين جبلين، لكن الرياح أتتهم من أسفلهم فنكستهم على رؤوسهم؛ كما قال الله: ﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ﴾ [الحاقة: 7 - 8].
وهكذا نبي الله صالح أرسله الله إلى أمة ثمود، أرسله إلى تلك القرى وإلى تلك المدائن، يأمرهم بالتوحيد ويحذِّرهم من الشرك، يأمرهم بالطاعة ويحذرهم من المعصية، فأبوا أن يستجيبوا له قال سبحانه: ﴿ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ﴾ [الحاقة: 5].
ذلك بأنهم طالبوه بمعجزة عظمى، فسأل ربه معجزة ليقابلهم بها، فأخرج الله له ناقة من صخرة عظيمة، فكانوا يشربون لبنها يومًا وهي تشرب من مياههم يومًا، ويستغلون شرب الماء في اليوم الثاني، لكنهم قابلوا ذلك بالتكذيب، كما ذكر الله عز وجل ذلك في القرآن؛ إذ يقول لهم النبي الكريم: ﴿ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ﴾ [الشمس: 13]، فإذا بهم يعقرونها، فدمدم الله عز وجل عليهم، فأنزل أليم عذابه عليهم، وخرَّب ديارهم حينما قابلوا نبيهم بالتكذيب؛ قال الله: ﴿ فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [ الأعراف77 - 78].
وهكذا فرعون كان يقول لأهل مصر: ﴿ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الزخرف: 51].
فأرسل الله إليه موسى داعية إلى التوحيد، داعية إلى الخير بكل رفقٍ وبكل بيان؛ كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 44]، لكنه أبى أن يستجيب وتفلسف أمام نبي الله موسى، ﴿ قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى ﴾ [طـه: 49]، وقَالَ لموسى أيضًا: ﴿ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى ﴾ [طـه: 51].
فحينها دعا موسى ربه وأمن هارون على دعاء موسى، فرفعت الدعوة إلى الله، فاستجابها رب العباد، فأهلك فرعون بالغرق؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ [يونس: 88 - 92].
فهذا الطوفان وهذا الغرق وهذه الأمواج، إنما حلت بفرعون بعد أن أرسل الله إليه موسى، فوجَّهه توجيهًا إلى الله، لكنه أبى أن يتابع موسى، وأن يكون من أتباعه، فتجبر وتكبر عياذًا بالله، فبغَضه الله وبغَضه جبريل، حتى إن جبريل يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: (لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر، فأدُسه في فم فرعون مخافةَ أن تُدركه الرحمة)[2].
وذلكم قارون الذي أمده الله بأصناف المال، لكنه لم يؤدِّ شكرها، بل إنه قابلها بالكفران وقابلها بالجحود والنكران، فسلبها الله عز وجل منه، ولم يكن بذلك من الشاكرين، فأخذها الله سبحانه وتعالى منه، بل زلزل الأرض من تحت قدميه، وخسف به سبحانه وتعالى حينما طغى وتجبر، وتعالى على أرحم الراحمين؛ قال جل وعلا: ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾ [القصص: 76 - 82]؛ أي: عجبًا لا يفلح الكافرون أبدًا إن أُعطي النعم قابلها بالجحود.
ويبيِّن ذلك نبينا في حديث رواه البخاري ومسلم؛ قال صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يمشي في حلة تُعجبه نفسه مرجل جمته، إذ خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)[3].
وهكذا ما حصل من قوم لوط أرسل الله إليهم نبيه لوطًا عليه الصلاة والسلام، وحذَّرهم فداحة الجريمة التي يقومون بها من الشذوذ الجنسي، لكنهم استهزؤوا به، وسخروا به وبدعوته، فماذا كان من الله؟ أرسل الله ملكًا من ملائكته العظام، فيرفع قرى قوم لوط إلى عنان السماء حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم وصياح دَيَكتهم؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ﴾ [الشعراء: 173، النمل: 58]، وقال تعالى: ﴿ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ﴾ [الحجر:74].
جعل الله عاليها سافلها، فكانت عقوبتهم من أعظم العقوبات ومن أبدع العقوبات؛ لأنهم جاؤوا بجريمة بديعة لم يسبقوا إليها، عكسوا الفطرة التي ما أذن الله عز وجل بعكسها، فكان انتقام الله من الظالمين؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾ [هود: 83].
ولقد أمد الله قومًا من الناس[ وهم قوم سبأ] بأصناف من المال، لكنهم قابلوه بالنكران، ولم يؤدوا شكر النعم، فأرسل الله عز وجل سيلًا أخذ ثمارهم وخرَّب حصونهم، وأباد مزارعهم، فكانوا عظة وعبرة إلى قيام الساعة؛ قال سبحانه: ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ ﴾ [سبأ: 15 - 17].
مزق الله مملكة سبأ، وما كان عندهم من أصناف الأرزاق والأموال، ولقد ذكر بعض علماء التفسير أن المرأة كانت تنطلق صباح يومها ومكتلها على رأسها، فلا تعود إلا وقد امتلأ ذلكم المكتل من أصناف الثمار التي تتساقط إلى المكتل، دون أن تتعب المرأة أو الرجل بقطفها، لكنهم لم يشكروا تلكم النعم، والنعمة إذا شُكرت قرَّت وإذا كُفرت فرَّت.
إذا كنت في نعمة فارعها
فإن المعاصي تزيل النعم
وداوم عليها بشكر الإله
فإن الإله سريع النقم
يقول سبحانه: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].
عباد الله، هدَّد الله عز وجل عباده، هددهم الله بإرسال الطوفان والغرق، وبضرب الزلازل والابتلاءات إن خالفوا أمره؛ قال جل وعلا: ﴿ أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ﴾ [الملك: 16]، ﴿ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ﴾؛ أي: أأمنتم مكر الله الذي هو القاهر فوق عباده أن يزلزل الأرض من تحت أقدامكم، وكان هذا عبارة عن عبر وعظات يرسله الله تخويفًا إلى الخلق لا كما يقوله بعض الطبائعين، أو من لا علم عنده: إنها براكين أو زلازل طبيعية، كلا والله إنها عقوبات ربانية، إنه عذاب يرسله الله على من شاء من عباده تخويفًا؛ كما قال الله: ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا ﴾ [الإسراء59].
ما يرسل الله عز وجل بالآيات إلا من أجل تخويف عباده، ولقد جاء في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رصي الله عنه لما نزلت هذه الآية: (﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ﴾ [الأنعام: 65]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجهك)، قال: (أو من تحت أرجُلكم)، قال: (أعوذ بوجهك)، ﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾ [الأنعام: 65]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا أهون أو هذا أيسر)[4].
وبلغ من خوف نبينا صلى الله عليه وسلم من أن يهلكه بالزلازل، أو أن تخسف الأرض من تحت قدميه أن كان يستعيذ بالله صباحًا ومساءً من الزلزلة، ومن الخسف ومن تغيُّر الحال؛ روى الإمام أبو داود في سننه وكذا ابن ماجه أيضًا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصبح أو أمسى يقول: (اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي)[5].
قال الإمام الشافعي رحمه الله [6]: والمراد بالاغتيال من تحتي أن تصفو الزلال.
هكذا بلغ الحال بنبينا صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ بالله من الخسف، ويستعيذ به من الزلزلة؛ ذلك أمر الله الذي عناه بكتابه: ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].
فإذا حصل التغيير من القلب، وإذا ترجم ذلك إلى الواقع أو لم يترجم، فإن الله يرسل عقوبته على من شاء من عباده، نسأل الله أن يصرف عنا الزلازل والفتن ما ظهر منها وما بطن، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه يغفر لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين:
عباد الله، اتقوا الله سبحانه وتعالى وراقبوه، واعلموا يا عباد الله أن ما حصل من الزلازل والفيضانات في كثير من دول الشرق في الهند وإندونسيا وفي سريلانكا، وكثير من بلاد العالم الإسلامي وغيره، إنما هو ابتلاء من الله سبحانه وتعالى وعذاب أرسله سبحانه وتعالى؛ لأنه سبحانه وتعالى يقول: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41]، وقال سبحانه: ﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [السجدة: 21].
ولقد أخبرنا من يتابع شبكة المعلومات الدولية شبكة الإنترنت - أن هذه الفيضانات إنما عمت كثيرًا من السواحل التي كان فيها من البارات والفساد، وأخبرني شاهد آخر بأنه قال لي: لقد رأينا المساجد العامرة في إندونسيا وفي بلاد الهند، لم يحصل لها ولا لمن فيها شيء إلا مسجد أُصيب ببعض الشقوق، إن دل هذا فإنما يدل على أن الفساد إن حل في الأرض أرسل الله عقوبته، هذا أمر، وأمر آخر أنه من علامات قرب قيام الساعة إرسال الزلازل؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج، وهو القتل)[7]، وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: (إنها لن تقوم الساعة حتى ترون قبلها عشر آيات، فذكر الدخان والدجال والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم ﴾[8]، فهذا الخسف الحاصل ليس بعلامة كبرى من علامات قيام الساعة، لكنه من العلامات التي تحصل قبل قيام الساعة، من أجل أن يرعوي الناس، من أجل أن يتوب الناس، من أجل أن يرجعوا إلى الله سبحانه وتعالى، فإنه بكثرة الفساد وبكثرة الفحشاء والمنكر، ينزل البلاء وتكثر الزلازل والفتن، فتوبة عباد الله توبة إلى الله سبحانه وتعالى، وهناك بعض الدراسات تقول: إن بعض الدول الإسلامية التي على مشارف البحار كعدن وما جاورها مهددةً أيضًا بالفيضانات، وهذا أمر إن أراده الله كان، فلا يحتاج إلى دراسة أو نظرية، فإن أمر الله بين الكاف والنون، فعودة إلى الله عباد الله، ومحافظةً على الصلاة، ومحافظةً على أداء الزكاة، ومحافظة على أعمال البر توبة نصوحة.
قدم لنفسك توبة مرجوةً
قبل المعاد وقبل حبس الألسن
بادر بها غلقَ النفوس فإنه
ذُخر وغنم للمنيب المحسن
عباد الله، اتقوا الله عز وجل، واعلموا أنه يا عباد الله في مثل هذه الأوضاع الراهنة التي يعيشها العالم الإسلامي، هناك بعض الجرائد في مثل هذه الأوضاع لا تزال تعلن سفاهتها، وتُعلن قبح قولتها على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا حاصل في كثير من الصحف التي تنشر أسبوعيًّا في بلدنا الحبيب، فواجب على الكتاب والأدباء أن يتقوا الله عز وجل سواء عند الظروف القاسية أو عند غيرها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفْك في الشدة)[9]، فوقت الرخاء يجب على المسلمين أن يتعرفوا إلى ربهم، فإذا ما نزل البلاء ورفع الدعاء، كانت الاستجابة من الله سبحانه وتعالى.
عباد الله، إن الكثير من دول العالم لا سيما دول الخليج، قد تفاعلت مع هذه الأوضاع ومع هذه الزلازل والضحايا بالتبرعات، ولقد جاءتنا رسالة قبل أن أصعد على منبري هذا من شركة سبيستل، تعلن أن بعض دول الخليج قد بلغ تبرعها اثنين وثمانين مليون دولار، فهذا مبلغ طيب لإخواننا الذين أصيبوا بالزلازل والفيضانات، وإن حكومتنا الراشدة ندبت المسلمين في هذا البلد أن يتعاونوا لإخوانهم ويتبرعوا لهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)[10].
ولا ننسى عباد الله ما حصل من الزلازل في الثمانينات في بلدنا هذا، وما حصل من التبرعات من كثير من دول العالم، إنه الجزاء من جنس العمل، فإذا ما حصل لا سمح الله لنا أو لغيرنا، كان إخواننا يعاملونا بنفس المعاملة.
أسأل الله عز وجل أن يرفع عن المسلمين الزلازل والفتن، وأن يرفع عنا الغلاء والزنا والربا، وأن يرفع عنا كل بلاء.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
اللهم لا تدع لنا ذنبًا إلا غفرته ولا هَمًّا إلا فرجته، ولا دينًا إلا قضيتَه.
اللهم احفَظ عبادك المؤمنين، اللهم احفظ عبادك المؤمنين.
اللهم احفظ عبادك المؤمنين اللهم احفظنا واحفظ بلادنا.
اللهم احفظنا مِن فوقنا ومن تحتنا وعن أيماننا وعن شمائلنا.
اللهم إنا نعوذ بك من السوء ومن يوم السوء ومن جار السوء ومن ساعة السوء.
اللهم اصرف السوء عن عبادك المؤمنين، اللهم من أراد بالمسلمين سوءًا، فاشغله في نفسه واجعل كيده في نحره.
اللهم من أراد الخير للإسلام والمسلمين فثبِّته يا أرحم الراحمين، واجعل له ذكرًا في العالمين.
عباد الله: ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].
اذكروا الله يذكُركم، واشكروه على نِعمه يَزِدْكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.