حكاية ناي ♔
09-27-2024, 07:36 PM
الحمد لله... أيها الإخوة المؤمنون، أعظم قصة في التاريخ هي قصة الوحي الخاتم، إنها قصة الوحي الإلهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والتي أذن فيها الله تعالى في عليائه لأمين الوحي جبريل عليه السلام أن يهبط بسلام إلى الأرض حاملاً معه المنهج الخاتم للبشرية، إلى سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم؛ فهو أعظم مخلوق، وأكمل مخلوق، وأتقى مخلوق، بأبي هو أمي.
عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، [وفي لفظ: الرُّؤْيَا الصَّادِقة] فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ. قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ». قَالَ: «فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي»، فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي». فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي». فَقَالَ: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴾ [العلق: 1 - 3]». فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ - رضي الله عنها – فَقَالَ: «زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي». فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ، وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي». فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا،[وفي لفظ، قالت له: كَلاَّ أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا] إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ - وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ... فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِى نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى عليه السلام. يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا[1]، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟». قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ؛ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ[2].
ومع حديث الوحي - إخوتي الكرام - لنا وقفات نأخذ منها الدروس والعبر:
الوقفة الأولى: مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعداد الله تعالى له؛ كي يتحمَّل مفاجأة نزول الوحي، فقد هيَّأه الله تعالى ابتداءً بالرؤية الصالحة التي لا يراها إلاَّ وجاءت مثل فلق الصبح، ثم تحبيبه صلى الله عليه وسلم في الخلاء والخلوة بنفسه؛ للتأمل والتفكر والتدبر في هذا الكون وما به من خلق ومخلوقات، ومطابقة الفطرة السليمة التي فطر الله تعالى الناس عليها للحق، والتي كانت تنمو يوماً بعد يوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اكتملت واتَّسقت وتهيَّأت لتلقِّي هذا الحق المبين.
الوقفة الثانية: فهي مع أول ليلة لنزول الوحي، وأول كلمة تلقَّاها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي ﴿ اقْرَأْ ﴾ [العلق: 1]، ذلك الأمر الإلهي على لسان أمين الوحي إلى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، إيذاناً بانتهاء عصر الخرافة والجهل، عصر الأصنام والأوثان، وابتداء عصر جديد للبشرية بأسرها، وهو عصر العلم والمعرفة، نعم، عصر العلم بالله تعالى ابتداءً الذي هو أصل كل علم، ثم عصر المعرفة واكتشاف الكون وما به، والذي كان أولى بالمسلمين أن يكونوا روَّاده وأربابه إلى قيام الساعة، ولكنهم لمَّا تمسَّكوا بالعلم الإلهي وجعلوا العلمَ بالله أساس علومهم وصلوا إلى المعرفة المنشودة، فسادوا العالمَ شرقاً وغرباً، ثم لمَّا تخلَّوا عن عقيدتهم وفرَّطوا في منهجهم تخلَّفوا وصاروا في ذيل الأمم.
الوقفة الثالثة: وهي وقفة خاصة مع أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، تلك الزوجة الصالحة التي جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرَ متاع الدنيا.
قال النووي رحمه الله - في قول خديجة للنبي: كَلاَّ أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا: (معنى كلام خديجة - رضي الله عنها: إنك لا يصيبك مكروه؛ لما جعل الله فيك من مكارم الأخلاق، وكرم الشمائل، وذَكَرَتْ ضروباً من ذلك، وفي هذا: دلالة على أن مكارم الأخلاق، وخصال الخير سبب السلامة من مصارع السوء، وفيه: مدح الإنسان في وجهه في بعض الأحوال؛ لمصلحة، أو فيه تأنيسُ مَنْ حصلت له مخافةً من أَمْرٍ وتبشيرُه، وذِكْرُ أسبابِ السلامة له، وفيه: أعظم دليل وأبلغ حجة على كمال خديجة رضي الله عنها، وجزالة رأيها، وقوة نفسها، وثبات قلبها، وعظم فقهها)[3].
نعم - أيها الإخوة – إنها أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها بعقلها وحكمتها ورشدها وعطفها وحبها كانت خير مُعين للنبي صلى الله عليه وسلم لتلقِّي نبأ الوحي، فهي السكن والطمأنينة، فما أن فزع إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طمأنته بحكمتها وفطرتها السليمة، لقد كانت هذه اللحظة، هي اللحظة الفارقة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل وحياة الأمة بأسرها. هذه اللحظة هي التي واجهتها خديجة رضي الله عنها، فبكل حكمة وفطرة سليمة أرشدتها إلى أن صاحب الخلق الكريم والسلوك القويم والسيرة الحسنة لا يمكن بحال أن يكون عرضة للخطر؛ بل هو الآمن المطمئن بإذن الله تعالى، فأخذت تهدِّئ من روعه صلى الله عليه وسلم وتطمئنه على نفسه، وأن الله سبحانه لن يخزيه أبداً، وهو صاحب هذا الخلق العظيم.
ولم تكتف رضي الله عنها بذلك، وإنما بخبرتها في الحياة أيقنت أن ما حدث للرسول صلى الله عليه وسلم حدث جلل، بحاجة إلى علم خاص، فذهبت به بفراستها إلى ابن عمها ورقة بن نوفل الذي صدقت فيه فراستها وبانت فيه حكمتها، فعرف أن هذا هو النبي المنتظر والبشارة المرتقبة في الكتب السابقة.
نعم، إخوة الإسلام.. إنَّ دور المرأة في حياة زوجها لهو من أخطر الأدوار وأهمها على الإطلاق، ودعونا نُطلقها مدوِّية صريحة بلا خجل، إن وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة، نعم، امرأة تدفعه إلى النجاح وتذلل له العقبات وتدعمه بروحها وحبها وتفانيها وتضحياتها.
لقد كانت أم المؤمنين خديجة خير مُعين للنبي صلى الله عليه وسلم، فظلَّت له داعمة ومساندة، فآمنت به وصدَّقته ولم تخذله، ولم تبخل بحبها ومالها، فكانت جبهته الداخلية - صلى الله عليه وسلم - المتمثِّلة في أسرته الكريمة والمكوَّنة من السيدة خديجة وبناتها جبهة قوية، إذ آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إيماناً صادقاً من أوَّل لحظة، وإنني لا شك عندي في أن بناته - رضي الله عنهن - مع زوجه خديجة- رضي الله عنها - كُنَّ أوَّل مَنْ آمن به صلى الله عليه وسلم وبرسالته المباركة.
الخطبة الثانية
الحمد لله...
أمَّا الوقفة الرابعة: فمع ورقة بن نوفل رضي الله عنه، ذلك الرجل الشجاع الذي صدَّق بالحق، ولم يكتمه؛ بل آمن به، وقدَّم النِّية الحسنة في أنه سوف ينصره، فمات رضي الله عنه قبل نصره، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَشَّر بحسن منزلته في الجنة.
عن عائشة رضي الله عنها؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تَسُبُّوا ورقةَ بنَ نوفلٍ؛ فإني قد رأيتُ له جَنَّةً أو جَنَّتين)[4].
قال الحافظ العراقي - رحمه الله: (هذا شاهد لما ذهب إليه جَمْعٌ: من أن ورقةَ أسْلَمَ عند ابتداء الوحي... والظاهر: أنه لم يكن متمسِّكاً بالمُبدَّل من النصرانية؛ بل بالصحيح منها الذي هو الحق)[5].
ويؤيده ما جاء في رواية أبي ميسرة، من قول ورقة بن نوفل - رضي الله عنه - للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: (أبشر؛ فأنا أشهدُ أنَّكَ الذي بَشَّرَ به ابنُ مريم، وأنك على مِثْلِ ناموس موسى، وأنك نبيٌّ مُرسل، وأنك سَتُؤمر بالجهاد)[6]؛ قال ابن حجر- رحمه الله: (وهذا أصرح ما جاء في إسلام ورقة)[7].
عباد الله.. لقد توقَّف الوحي بعد تلك الحادثة فترةً من الزمن، ولم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحزن حزناً شديداً؛ جاء في صحيح البخاري: (وَفَتَرَ الْوَحْيُ[8] فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُزْنًا؛ غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ[9]، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ؛ لِكَيْ يُلْقِيَ مِنْهُ نَفْسَهُ، تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا. فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ[10]، وَتَقِرُّ نَفْسُهُ فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهُ: مِثْلَ ذَلِكَ)[11].
ثم عاوده الوحي مرة أخرى، وهو في غار حِراء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ[12] شَهْرًا، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي؛ نَزَلْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ بَطْنَ الْوَادِي، فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ أَمَامِي وَخَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ فِي الْهَوَاءِ - يَعْنِي: جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فَأَخَذَتْنِي رَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي. فَدَثَّرُونِي، فَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ [المدثر: 1 - 4]»[13].
وفي رواية: «فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَجَئِثْتُ مِنْهُ[14] حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي. فَزَمَّلُونِي... ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ[15]»[16].
وهكذا تبدأ مرحلة جديدة من حياة النبوة، وهي مرحلة الدعوة إلى الله تعالى، ففيها أمَرَ اللهُ تعالى نبيَّه الكريم صلى الله عليه وسلم بالقيام للتَّصدي لواجب الدعوة إلى الله تعالى، وإنذار قومه، وتبليغ رسالته.
عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، [وفي لفظ: الرُّؤْيَا الصَّادِقة] فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ. قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ». قَالَ: «فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي»، فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي». فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي». فَقَالَ: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴾ [العلق: 1 - 3]». فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ - رضي الله عنها – فَقَالَ: «زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي». فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ، وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي». فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا،[وفي لفظ، قالت له: كَلاَّ أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا] إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ - وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ... فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِى نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى عليه السلام. يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا[1]، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟». قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ؛ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ[2].
ومع حديث الوحي - إخوتي الكرام - لنا وقفات نأخذ منها الدروس والعبر:
الوقفة الأولى: مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعداد الله تعالى له؛ كي يتحمَّل مفاجأة نزول الوحي، فقد هيَّأه الله تعالى ابتداءً بالرؤية الصالحة التي لا يراها إلاَّ وجاءت مثل فلق الصبح، ثم تحبيبه صلى الله عليه وسلم في الخلاء والخلوة بنفسه؛ للتأمل والتفكر والتدبر في هذا الكون وما به من خلق ومخلوقات، ومطابقة الفطرة السليمة التي فطر الله تعالى الناس عليها للحق، والتي كانت تنمو يوماً بعد يوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اكتملت واتَّسقت وتهيَّأت لتلقِّي هذا الحق المبين.
الوقفة الثانية: فهي مع أول ليلة لنزول الوحي، وأول كلمة تلقَّاها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي ﴿ اقْرَأْ ﴾ [العلق: 1]، ذلك الأمر الإلهي على لسان أمين الوحي إلى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، إيذاناً بانتهاء عصر الخرافة والجهل، عصر الأصنام والأوثان، وابتداء عصر جديد للبشرية بأسرها، وهو عصر العلم والمعرفة، نعم، عصر العلم بالله تعالى ابتداءً الذي هو أصل كل علم، ثم عصر المعرفة واكتشاف الكون وما به، والذي كان أولى بالمسلمين أن يكونوا روَّاده وأربابه إلى قيام الساعة، ولكنهم لمَّا تمسَّكوا بالعلم الإلهي وجعلوا العلمَ بالله أساس علومهم وصلوا إلى المعرفة المنشودة، فسادوا العالمَ شرقاً وغرباً، ثم لمَّا تخلَّوا عن عقيدتهم وفرَّطوا في منهجهم تخلَّفوا وصاروا في ذيل الأمم.
الوقفة الثالثة: وهي وقفة خاصة مع أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، تلك الزوجة الصالحة التي جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرَ متاع الدنيا.
قال النووي رحمه الله - في قول خديجة للنبي: كَلاَّ أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا: (معنى كلام خديجة - رضي الله عنها: إنك لا يصيبك مكروه؛ لما جعل الله فيك من مكارم الأخلاق، وكرم الشمائل، وذَكَرَتْ ضروباً من ذلك، وفي هذا: دلالة على أن مكارم الأخلاق، وخصال الخير سبب السلامة من مصارع السوء، وفيه: مدح الإنسان في وجهه في بعض الأحوال؛ لمصلحة، أو فيه تأنيسُ مَنْ حصلت له مخافةً من أَمْرٍ وتبشيرُه، وذِكْرُ أسبابِ السلامة له، وفيه: أعظم دليل وأبلغ حجة على كمال خديجة رضي الله عنها، وجزالة رأيها، وقوة نفسها، وثبات قلبها، وعظم فقهها)[3].
نعم - أيها الإخوة – إنها أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها بعقلها وحكمتها ورشدها وعطفها وحبها كانت خير مُعين للنبي صلى الله عليه وسلم لتلقِّي نبأ الوحي، فهي السكن والطمأنينة، فما أن فزع إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طمأنته بحكمتها وفطرتها السليمة، لقد كانت هذه اللحظة، هي اللحظة الفارقة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل وحياة الأمة بأسرها. هذه اللحظة هي التي واجهتها خديجة رضي الله عنها، فبكل حكمة وفطرة سليمة أرشدتها إلى أن صاحب الخلق الكريم والسلوك القويم والسيرة الحسنة لا يمكن بحال أن يكون عرضة للخطر؛ بل هو الآمن المطمئن بإذن الله تعالى، فأخذت تهدِّئ من روعه صلى الله عليه وسلم وتطمئنه على نفسه، وأن الله سبحانه لن يخزيه أبداً، وهو صاحب هذا الخلق العظيم.
ولم تكتف رضي الله عنها بذلك، وإنما بخبرتها في الحياة أيقنت أن ما حدث للرسول صلى الله عليه وسلم حدث جلل، بحاجة إلى علم خاص، فذهبت به بفراستها إلى ابن عمها ورقة بن نوفل الذي صدقت فيه فراستها وبانت فيه حكمتها، فعرف أن هذا هو النبي المنتظر والبشارة المرتقبة في الكتب السابقة.
نعم، إخوة الإسلام.. إنَّ دور المرأة في حياة زوجها لهو من أخطر الأدوار وأهمها على الإطلاق، ودعونا نُطلقها مدوِّية صريحة بلا خجل، إن وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة، نعم، امرأة تدفعه إلى النجاح وتذلل له العقبات وتدعمه بروحها وحبها وتفانيها وتضحياتها.
لقد كانت أم المؤمنين خديجة خير مُعين للنبي صلى الله عليه وسلم، فظلَّت له داعمة ومساندة، فآمنت به وصدَّقته ولم تخذله، ولم تبخل بحبها ومالها، فكانت جبهته الداخلية - صلى الله عليه وسلم - المتمثِّلة في أسرته الكريمة والمكوَّنة من السيدة خديجة وبناتها جبهة قوية، إذ آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إيماناً صادقاً من أوَّل لحظة، وإنني لا شك عندي في أن بناته - رضي الله عنهن - مع زوجه خديجة- رضي الله عنها - كُنَّ أوَّل مَنْ آمن به صلى الله عليه وسلم وبرسالته المباركة.
الخطبة الثانية
الحمد لله...
أمَّا الوقفة الرابعة: فمع ورقة بن نوفل رضي الله عنه، ذلك الرجل الشجاع الذي صدَّق بالحق، ولم يكتمه؛ بل آمن به، وقدَّم النِّية الحسنة في أنه سوف ينصره، فمات رضي الله عنه قبل نصره، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَشَّر بحسن منزلته في الجنة.
عن عائشة رضي الله عنها؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تَسُبُّوا ورقةَ بنَ نوفلٍ؛ فإني قد رأيتُ له جَنَّةً أو جَنَّتين)[4].
قال الحافظ العراقي - رحمه الله: (هذا شاهد لما ذهب إليه جَمْعٌ: من أن ورقةَ أسْلَمَ عند ابتداء الوحي... والظاهر: أنه لم يكن متمسِّكاً بالمُبدَّل من النصرانية؛ بل بالصحيح منها الذي هو الحق)[5].
ويؤيده ما جاء في رواية أبي ميسرة، من قول ورقة بن نوفل - رضي الله عنه - للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: (أبشر؛ فأنا أشهدُ أنَّكَ الذي بَشَّرَ به ابنُ مريم، وأنك على مِثْلِ ناموس موسى، وأنك نبيٌّ مُرسل، وأنك سَتُؤمر بالجهاد)[6]؛ قال ابن حجر- رحمه الله: (وهذا أصرح ما جاء في إسلام ورقة)[7].
عباد الله.. لقد توقَّف الوحي بعد تلك الحادثة فترةً من الزمن، ولم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحزن حزناً شديداً؛ جاء في صحيح البخاري: (وَفَتَرَ الْوَحْيُ[8] فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُزْنًا؛ غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ[9]، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ؛ لِكَيْ يُلْقِيَ مِنْهُ نَفْسَهُ، تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا. فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ[10]، وَتَقِرُّ نَفْسُهُ فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهُ: مِثْلَ ذَلِكَ)[11].
ثم عاوده الوحي مرة أخرى، وهو في غار حِراء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ[12] شَهْرًا، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي؛ نَزَلْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ بَطْنَ الْوَادِي، فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ أَمَامِي وَخَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ فِي الْهَوَاءِ - يَعْنِي: جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فَأَخَذَتْنِي رَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي. فَدَثَّرُونِي، فَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ [المدثر: 1 - 4]»[13].
وفي رواية: «فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَجَئِثْتُ مِنْهُ[14] حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي. فَزَمَّلُونِي... ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ[15]»[16].
وهكذا تبدأ مرحلة جديدة من حياة النبوة، وهي مرحلة الدعوة إلى الله تعالى، ففيها أمَرَ اللهُ تعالى نبيَّه الكريم صلى الله عليه وسلم بالقيام للتَّصدي لواجب الدعوة إلى الله تعالى، وإنذار قومه، وتبليغ رسالته.