مشاهدة النسخة كاملة : دفاع عن عثمان بن عفان (2)


حكاية ناي ♔
09-30-2024, 06:07 PM
الخطبة الأولى

انتهينا في الجمعة الماضية من الجزء الأول من بيان بعض فضائل الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه، وذكرنا أنه من الذين بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، والوحيد الذي أكرمه الله تعالى بتزوج بنتي رسولٍ، وأنه أصدق الصحابة حياء، حتى إن الملائكة لتستحيي منه، وأنه كان شديد الكرم، يعطي ولا يبالي، فاشترى بماله الجنة مرتين كما قال أبو هريرة، وذلك حين حفر بئر رومة، وحين جهز جيش العسرة، ونثر ألف دينار في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فصل في مآل عثمان فقال: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم" مرتين. صحيح سنن الترمذي.



هذا الرجل بهذه القامة العظيمة، لا يمكن أن تكون سيرته إلا هديا على خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبسا من قبساته.



فقد كان من أعظم مآثره رضي الله عنه، أنه جمع هذا المصحف الذي يوجد اليوم بين أيدينا، الذي ينسب إليه رضي الله عنه رسمه، فيقال: الرسم العثماني، وتلك منقبة لم يظفر بها أحد من الصحابة الكرام. قال الشعبي: "لم يجمع القرآن أحد من الخلفاء من الصحابة غيرُ عثمان"، حتى إن عليًّا رضي الله عنه قال: "لو لم يصنعه عثمان لصنعته".



فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أن حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ، وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ فِي فَتْحِ إِرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلاَفُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ اخْتِلاَفَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاَثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، فَفَعَلُوا، حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ، رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ" البخاري.



كان ذلك بعد استشارة الصحابة، واختيار أولى الناس من كتبة الوحي وحفاظه.



أورد ابن حجر في الفتح أن عثمان رضي الله عنه قال: "مَن أَكْتَبُ الناس؟ قالوا: زيد بن ثابت. قال: فأي الناس أفصح؟ قالوا: سعيد بن العاص. فقال: فَلْيُمْلِ سعيد، وليكتب زيد".



وكان القرآن لعثمان مثل ظله، لا يفارقه، فقد نقل الذهبي عن الداني، أن عثمان عرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أول من كتب المفصل من الصحابة. وقال الذهبي: "وصح من وجه أن عثمان قرأ القرآن كله في ركعة".



وكان رضي الله عنه يقول: "إني لأَكرَهُ أن يأتيَ عليَّ يومٌ لا أنظرُ فيه في المصحف". ويقول: "لو طَهُرَتْ قلوبُكم، ما شبعتُم من كلام الله". لذلك لم يمت رضي الله عنه حتى خَلِقَ مصحفُه من كثرة ما يُديم النظر فيه كما قال الحسن البصري رحمه الله.



وأضاف إلى ذلك علما غزيرا، وعبادة وافرة. قال ابن سيرين: "كان أعلَمُهم بالمناسك عثمان".



وقال ابن شهاب الزهري: "لو هَلك عثمان بن عفان وزَيدُ بن ثابت في بعض الزمان، لهلك علم الفرائض إلى يوم القيامة، ولقد جاء على الناس زمان ولا يَعلمها غيرهما".



وعن الزبير بن عبد الله، عن جدته "أن عثمان كان يصوم الدهر، ويقوم الليل إلا هجعةً من أوله".



ومن خشيته لربه رضي الله عنه، أنه كَانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى تَبْتَلَّ لِحْيَتُهُ، فَقِيلَ لَهُ: تَذْكُرُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مِنْ هَذَا؟ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ، فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ، فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ". قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا إِلا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ" صحيح سنن ابن ماجة.



وجمع مع ذلك تواضعا في نفسه جما، وتذللا لرعيته نادرا. يقول أبو عبد الله مولى شداد: "رأيت عثمان يخطب، وعليه إزار غليظ ثمنه أربعة دراهم".



وعن الحسن قال: "رأيت عثمان نائما في المسجد، ورداؤه تحت رأسه، فيجيء الرجل فيجلس إليه، ويجيء الرجل فيجلس إليه، كأنه أحدهم".



وعن عبد الله الرومي قال: "كان عثمان يلي وَضوء الليل بنفسه، فقيل له: لو أمرتَ بعض الخدم فكفوك. قال: لا، الليل لهم يستريحون فيه".


وقال الحسن رضي الله عنه: "رأيت عثمان بنَ عفانَ يَقِيلُ في المسجد وهو يومئذ خليفة، وأثر الحصى بجنبه، فيقال: هذا أمير المؤمنين، هذا أمير المؤمنين".



وكان يقول رضي الله عنه: "حُبِّبَ إليَّ من الدنيا ثلاث: إشباعُ الجياع، وكِسْوَةُ العُريان، وتلاوةُ القرآن".



وزاد على هذه الخصال أن كان سليم الصدر، لا يحمل لأحد غلا ولا حسدا. قال عليٌّ رضي الله عنه: "إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله فيهم: "ونَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ".



فكيف إذا أضيف إلى كل ذلك الحنكة في السياسة، والصرامة في محاسبة المسؤولين، واللطف في تفقد أحوال الرعية. فقد كان يتفقد أحوال الحجاج بنفسه، فيلتقيهم، ويسمع شكاياتهم وتظلمهم من ولاتهم. وكان يأمر بحضور عماله في كل موسم مع الذين يشكونهم، حتى يقف على المظالم بنفسه. وكان يبعث المراقبين إلى الأمصار، ليطلعوا على أحوال أهلها، ويوفوه بتقارير حول أحوال الناس وعلاقاتهم بالولاة والعمال.



فكان خليقا به رضي الله عنه أن تتوالى الفتوحات في عهده، وأن ينتشر القرآن في البقاع البعيدة. قال ابن كثير رحمه الله: "وفي عصر عثمان بن عفان امتدَّت الممالكُ الإسلاميةُ إلى أقصى مشارِقِ الأرض ومغارِبها، وذلك ببركة تلاوته، ودراسته، وجمعه الأمةَ على حفظِ القرآن".



وكان ابن كثير يرى أنه يصدق في خلافته قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله زَوَى لي الأرضَ فرأيتُ مشارقَها ومغارِبها، وإن أمتي سيبلُغ مُلكُها ما زُوِيَ لي منها" رواه مسلم. قال: "وهذا كله تحقَّق وقوعه وتأكَّد وتوطَّن في زمان عثمان".



وعاش المسلمون في كنفه عيشا رغيدا، وأمنا وطيدا، واتفاقا حميدا. قال الحسن البصري رحمه الله: " أدركتُ عثمان.. قَلَّ ما يأتي على الناس يوم إلا وهم يقتسمون فيه خيرا.. الأعطيات جارية، والأرزاق دارَّة، والعدو مُتَّقًى، وذات البين حسن، والخيرُ كثير، وما مؤمنٌ يخافُ مؤمنًا، مَن لقِيَه فهو أخوه مَن كان".



قال الحسن: "عمل عثمان اثنتي عشرة سنة، ما ينكرون من إمارته شيئًا".
رجالٌ كالسنابلِ في عطاءٍ
يُرَون وكالشُّمُوسِ مُنَوِّرِينا



الخطبة الثانية

هذه الخيرات التي فتح الله بها على المسلمين في عهد عثمان، هي التي جَرَّأت طائفة من ضعاف القلوب على التفكير في التخلص من خلافته، والاستئثار بها دونه، بل والسعي لقتله وهو ابن الثنتين والثمانين سنة، مما برع فيه اليهود وتلامذتهم عبر التاريخ. فقد تولى كِبْر التخطيط لهذه الجريمة النكراء عبدالله بن سبإ اليهودي، الذي أسلم نفاقا، واستطاع أن يؤثر على عقول من لا يحسُب للأمور حسابا، ففتحوا على الأمة باب شر، أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لأَبِى مُوسَى رضي الله عنه: "افْتَحْ لَهُ (أي: عثمان)، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ" متفق عليه.



ولقد كان عثمان رضي الله عنه وقافا عند هذه البشارة، منتظرا لهذه البلوى، فامتنع عن مواجهة أعدائه، حقنا للدماء، وحفظا لجماعة المسلمين من المقاتلة والمنابذة، ولو أراد الدخول في هذه الفتنة لغَلَب، لما كان معه من الأنصار الكثر، والعتاد والمال، بل أوصاهم قائلا: "الزموا الجماعة حيث كانت".



قال حذيفة رضي الله عنه: "أول الفتن قتلُ عثمان، وآخرُ الفتن الدجَّال".



قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
قتلتم وَليَّ الله في جوف داره
وجئتم بأمر جائر غيرِ مهتدي
فلا ظَفِرَت أيمانُ قوم تعاونوا
على قتل عثمانَ الرشيدِ المسدَّد



هكذا أعداء الدين في كل زمان ومكان، تضيق صدورهم عن الحوارات المُقْنعة، والإدلاء بالحجج الدامغة، والبراهين الساطعة، فلا يعرفون إلا الاغتيالات أسلوبا، والانقلابات منهجا، والمحاكمات الأسطوريةَ مسلكا، وغياهبَ السجون ملجأ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

رحيق الورد
09-30-2024, 06:10 PM
جزاك الله خيـر
وبارك الله في جهودك
وأسال الله لك التوفيق دائما