عازف الناي
10-15-2022, 07:26 AM
الإيمان بأن ملك الموت يقبض الأرواح عندما يحين أجلها
قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴾ [السجدة: 10، 11].
قال الحافظ ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن المشركين في استبعادهم المعاد؛ حيث قالوا: ﴿ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ ﴾؛ أي: تمزقت أجسامنا وتفرقت في أجزاء الأرض وذهبت، ﴿ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾؛ أي: أإنا لَنَعُودُ بعد تلك الحال؟! يستبعدون ذلك، وهذا إنما هو بعيد بالنسبة إلى قُدْرَتهم العاجزة، لا بالنسبة إلى قُدْرة الذي بدأهم وخلقهم من العدم، الذي إنما أمْرُه إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن فيكون؛ ولهذا قال: ﴿ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ﴾.
ثم قال: ﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ﴾، الظاهر من هذه الآية أن ملك الموت شخص معيَّن من الملائكة، كما هو المتبادر من حديث البراء، قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن المِنْهَال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء بن عازب، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولَمَّا يُلْحَدْ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله، كأن على رؤوسنا الطيرَ، وفي يده عود يَنْكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: ((استعيذوا بالله من عذاب القبر))، مرتين أو ثلاثًا، ثم قال: ((إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بِيضُ الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحَنُوط من حَنُوط الجنة، حتى يجلسوا منه مَدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فِي السِّقَاءِ فيأخذها، فإذا أخذها لم يَدَعُوها في يده طرفةَ عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحَنُوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وُجِدَت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون - يعني بها - على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمُّونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيُفتَح له، فيُشَيِّعُه من كل سماء مقرَّبوها إلى السماء التي تليها، حتى يُنْتَهَى بها إلى السماء السابعة، فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عِلِّيِّين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أُعيدهم، ومنها أُخْرِجُهم تارة أخرى، قال: فتُعَاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيُجْلِسَانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعِث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: وما عِلْمُك؟ فيقول: قرأت كتابَ الله، فآمنْتُ به وصدَّقْتُ، فينادي منادٍ من السماء: أنْ صَدَقَ عبدي، فَأَفْرِشُوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، قال: فيأتيه من رَوْحِها وطِيبِها، ويُفْسَح له في قبره مَدَّ بصره، ويأتيه رجل حسنُ الوجه، حسَنُ الثياب، طيِّبُ الريح، فيقول: أبشِرْ بالذي يَسُرُّك، هذا يومك الذي كنت تُوعَدُ، فيقول له: من أنت، فوجهُكَ الوَجْهُ يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: ربِّ، أقمِ الساعةَ، ربِّ، أقِمِ الساعةَ؛ حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكةٌ سُودُ الوجوه، معهم المُسُوح، فجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفسُ الخبيثة، اخرجي إلى سَخَط من الله وغَضَب، قال: فتَفَرَّقُ في جسده، فينتزعها كما ينتزع السَّفُّود من الصُّوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يَدَعُوها في يده طَرْفَة عين، حتى يجعلوها في تلك المُسُوح، ويخرج منها كأَنْتَنِ ريحِ جيفةٍ وُجِدَت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على مَلأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الرُّوحُ الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمونه بها في الدنيا، حتى يُنْتَهَى به إلى السماء الدنيا، فيُسْتَفْتَحُ له فلا يُفْتَحُ له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ﴾ [الأعراف: 40]، فيقول الله: اكتبوا كتابه في سِجِّينٍ، في الأرض السفلى، فتُطْرَحُ رُوحه طرحًا، ثم قرأ: ﴿ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾ [الحج: 31].
فتُعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيُجْلِسَانه ويقولان له: من ربك؟ فيقول: هَاهْ هَاهْ، لا أدري، فيقولان له: ما دينُك؟ فيقول: هَاهْ هَاهْ، لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟ فيقول: هَاهْ هَاهْ، لا أدري، فينادي منادٍ من السماء: أنْ كَذَبَ؛ فَأَفْرِشُوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حَرِّها وسَمُومها، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، مُنتِنُ الريح، فيقول: أبْشِرْ بالذي يسوءُك، هذا يومك الذي كنتَ تُوعَدُ، فيقول: ومن أنتَ، فوجْهُك الوجه يَجِيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: ربِّ، لا تُقِمِ الساعةَ))؛ ورواه أبو داود من حديث الأعمش، والنَّسائي وابن ماجه من حديث المنهال بن عمرو، به.
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 97].
وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ [الأنعام: 93، 94].
قال الحافظ ابن كثير: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ؛ أي: في سكراته وغمراته وكُرُباته، وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} ﴾؛ أي: بالضرب، كما قال: ﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ﴾ [المائدة: 28]، وقال: ﴿ وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ ﴾ [الممتحنة: 2].
وقال الضَّحَّاك، وأبو صالح: ﴿ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ ﴾؛ أي: بالعذاب، وكما قال تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾ [الأنفال: 50]؛ ولهذا قال: ﴿ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ ﴾؛ أي: بالضرب لهم حتى تَخْرُجَ أنفسُهم من أجسادهم؛ ولهذا يقولون لهم: ﴿ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ﴾، وذلك أن الكافر إذا احتُضِرَ بَشَّرَتْهُ الملائكة بالعذاب والنَّكال، والأغلال والسلاسل، والجحيم والحميم، وغضَبِ الرحمن الرحيم، فتَتَفَرَّقُ روحه في جسده، وتعصي وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم، قائلين لهم: ﴿ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [الأنعام: 93]؛ أي: اليوم تُهَانون غاية الإهانة، كما كنتم تَكذِبون على الله، وتستكبرون عن اتباع آياته، والانقياد لرسله، والأدلة على ذلك في القرآن الكريم كثيرة.
عن سعيد بن أبي سعيد المقبُري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما خلَق الله آدم ونفخ فيه الروحَ، عطس، فقال: الحمد لله، فحمِد الله بإذنه، فقال له ربه: رحمك الله يا آدم، اذهب إلى أولئك الملائكة إلى ملأ منهم جلوسٍ فَقُلِ: السلامُ عليكم، قالوا: وعليك السلام ورحمة الله، ثم رجع إلى ربه، فقال: إن هذه تحيتك وتحية بَنِيك بينهم، فقال الله له ويداه مقبوضتان: اختر أيهما شئت، قال: اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمينٌ مباركةٌ، ثم بسطها، فإذا فيها آدم وذريته، فقال: أيْ رَبِّ، ما هؤلاء؟ فقال: هؤلاء ذريتك، فإذا كل إنسان مكتوب عمره بين عينيه، فإذا فيهم رجل أضوؤهم أو مِنْ أضوئِهم، قال: يا رب، من هذا؟ قال: هذا ابنك داود، قد كتبت له عمر أربعين سنة، قال: يا رب، زده في عمره، قال: ذاك الذي كتبْتُ له، قال: أيْ رَبِّ، فإني قد جعلتُ له من عمري ستين سنة، قال: أنت وذاك، قال: ثم أُسْكِنَ الجنةَ ما شاء الله، ثم أُهْبِطَ منها، فكان آدم يَعُدُّ لنفسه، قال: فأتاه ملك الموت، فقال له آدم: قد عجلتَ، قد كُتِبَ لي ألفُ سنةٍ، قال: بلى، ولكنك جعلْتَ لابنك داودَ ستين سنة، فجحد فجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُه، ونسيَ فنسِيَتْ ذريته، قال: فمِنْ يومئذٍ أُمِرَ بالكتاب والشهود))، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبدالرزاق حدثنا مَعْمَرٌ عن همام بن مُنَبِّه، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أحاديث، منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جاء ملكُ الموت إلى موسى عليه السلام، فقال له: أَجِبْ ربَّكَ، قال: فلطَمَ موسى عليه السلام عَيْنَ مَلَكِ الموت، ففقأها، قال: فرجع الملَك إلى الله تعالى، فقال: إنك أرسلتَني إلى عبدٍ لك لا يريد الموت، وقد فقأ عيني، قال: فَرَدَّ الله إليه عينه وقال: ارجع إلى عبدي، فَقُلْ: الحياةَ تُرِيدُ؟ فإن كنت تريد الحياة فضَعْ يدك على متن ثورٍ، فما توارت يدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة، قال: ثم مَهْ؟ قال: ثم تموت، قال: فالآن مِنْ قريبٍ، رب، أمِتْني من الأرض المقدَّسَةِ رميةً بحجرٍ))، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله، لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر)).
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ((إن المؤمن إذا حضره الموت، بُشِّرَ برضوان من الله وكرامة، فليس شيء أحبَّ إليه مما أمامه، وأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه))، قال ابن مسعود: إذا جاء ملَك الموت لقبض روح المؤمن، قال له: إن ربك يُقرِئُكَ السلام، وقال محمد بن كعب: يقول له ملك الموت: السلام عليك يا وَلِيَّ الله، واللهُ يقرئك السلام، ثم قال: ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ﴾ [النحل: 32]، وقال زيد بن أسلم: تأتي الملائكة للمؤمن إذا احتُضِرَ وتقول له: لا تَخَفْ مما أنت قادم عليه، فيُذْهِبُ اللهُ خوفَه، ولا تحزن على الدنيا وأهلها، وأبشِرْ بالجنة، فيموت وقد جاءته البشرى.
قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴾ [السجدة: 10، 11].
قال الحافظ ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن المشركين في استبعادهم المعاد؛ حيث قالوا: ﴿ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ ﴾؛ أي: تمزقت أجسامنا وتفرقت في أجزاء الأرض وذهبت، ﴿ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾؛ أي: أإنا لَنَعُودُ بعد تلك الحال؟! يستبعدون ذلك، وهذا إنما هو بعيد بالنسبة إلى قُدْرَتهم العاجزة، لا بالنسبة إلى قُدْرة الذي بدأهم وخلقهم من العدم، الذي إنما أمْرُه إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن فيكون؛ ولهذا قال: ﴿ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ﴾.
ثم قال: ﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ﴾، الظاهر من هذه الآية أن ملك الموت شخص معيَّن من الملائكة، كما هو المتبادر من حديث البراء، قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن المِنْهَال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء بن عازب، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولَمَّا يُلْحَدْ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله، كأن على رؤوسنا الطيرَ، وفي يده عود يَنْكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: ((استعيذوا بالله من عذاب القبر))، مرتين أو ثلاثًا، ثم قال: ((إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بِيضُ الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحَنُوط من حَنُوط الجنة، حتى يجلسوا منه مَدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فِي السِّقَاءِ فيأخذها، فإذا أخذها لم يَدَعُوها في يده طرفةَ عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحَنُوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وُجِدَت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون - يعني بها - على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمُّونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيُفتَح له، فيُشَيِّعُه من كل سماء مقرَّبوها إلى السماء التي تليها، حتى يُنْتَهَى بها إلى السماء السابعة، فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عِلِّيِّين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أُعيدهم، ومنها أُخْرِجُهم تارة أخرى، قال: فتُعَاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيُجْلِسَانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعِث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: وما عِلْمُك؟ فيقول: قرأت كتابَ الله، فآمنْتُ به وصدَّقْتُ، فينادي منادٍ من السماء: أنْ صَدَقَ عبدي، فَأَفْرِشُوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، قال: فيأتيه من رَوْحِها وطِيبِها، ويُفْسَح له في قبره مَدَّ بصره، ويأتيه رجل حسنُ الوجه، حسَنُ الثياب، طيِّبُ الريح، فيقول: أبشِرْ بالذي يَسُرُّك، هذا يومك الذي كنت تُوعَدُ، فيقول له: من أنت، فوجهُكَ الوَجْهُ يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: ربِّ، أقمِ الساعةَ، ربِّ، أقِمِ الساعةَ؛ حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكةٌ سُودُ الوجوه، معهم المُسُوح، فجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفسُ الخبيثة، اخرجي إلى سَخَط من الله وغَضَب، قال: فتَفَرَّقُ في جسده، فينتزعها كما ينتزع السَّفُّود من الصُّوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يَدَعُوها في يده طَرْفَة عين، حتى يجعلوها في تلك المُسُوح، ويخرج منها كأَنْتَنِ ريحِ جيفةٍ وُجِدَت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على مَلأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الرُّوحُ الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمونه بها في الدنيا، حتى يُنْتَهَى به إلى السماء الدنيا، فيُسْتَفْتَحُ له فلا يُفْتَحُ له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ﴾ [الأعراف: 40]، فيقول الله: اكتبوا كتابه في سِجِّينٍ، في الأرض السفلى، فتُطْرَحُ رُوحه طرحًا، ثم قرأ: ﴿ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾ [الحج: 31].
فتُعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيُجْلِسَانه ويقولان له: من ربك؟ فيقول: هَاهْ هَاهْ، لا أدري، فيقولان له: ما دينُك؟ فيقول: هَاهْ هَاهْ، لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟ فيقول: هَاهْ هَاهْ، لا أدري، فينادي منادٍ من السماء: أنْ كَذَبَ؛ فَأَفْرِشُوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حَرِّها وسَمُومها، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، مُنتِنُ الريح، فيقول: أبْشِرْ بالذي يسوءُك، هذا يومك الذي كنتَ تُوعَدُ، فيقول: ومن أنتَ، فوجْهُك الوجه يَجِيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: ربِّ، لا تُقِمِ الساعةَ))؛ ورواه أبو داود من حديث الأعمش، والنَّسائي وابن ماجه من حديث المنهال بن عمرو، به.
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 97].
وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ [الأنعام: 93، 94].
قال الحافظ ابن كثير: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ؛ أي: في سكراته وغمراته وكُرُباته، وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} ﴾؛ أي: بالضرب، كما قال: ﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ﴾ [المائدة: 28]، وقال: ﴿ وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ ﴾ [الممتحنة: 2].
وقال الضَّحَّاك، وأبو صالح: ﴿ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ ﴾؛ أي: بالعذاب، وكما قال تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾ [الأنفال: 50]؛ ولهذا قال: ﴿ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ ﴾؛ أي: بالضرب لهم حتى تَخْرُجَ أنفسُهم من أجسادهم؛ ولهذا يقولون لهم: ﴿ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ﴾، وذلك أن الكافر إذا احتُضِرَ بَشَّرَتْهُ الملائكة بالعذاب والنَّكال، والأغلال والسلاسل، والجحيم والحميم، وغضَبِ الرحمن الرحيم، فتَتَفَرَّقُ روحه في جسده، وتعصي وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم، قائلين لهم: ﴿ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [الأنعام: 93]؛ أي: اليوم تُهَانون غاية الإهانة، كما كنتم تَكذِبون على الله، وتستكبرون عن اتباع آياته، والانقياد لرسله، والأدلة على ذلك في القرآن الكريم كثيرة.
عن سعيد بن أبي سعيد المقبُري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما خلَق الله آدم ونفخ فيه الروحَ، عطس، فقال: الحمد لله، فحمِد الله بإذنه، فقال له ربه: رحمك الله يا آدم، اذهب إلى أولئك الملائكة إلى ملأ منهم جلوسٍ فَقُلِ: السلامُ عليكم، قالوا: وعليك السلام ورحمة الله، ثم رجع إلى ربه، فقال: إن هذه تحيتك وتحية بَنِيك بينهم، فقال الله له ويداه مقبوضتان: اختر أيهما شئت، قال: اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمينٌ مباركةٌ، ثم بسطها، فإذا فيها آدم وذريته، فقال: أيْ رَبِّ، ما هؤلاء؟ فقال: هؤلاء ذريتك، فإذا كل إنسان مكتوب عمره بين عينيه، فإذا فيهم رجل أضوؤهم أو مِنْ أضوئِهم، قال: يا رب، من هذا؟ قال: هذا ابنك داود، قد كتبت له عمر أربعين سنة، قال: يا رب، زده في عمره، قال: ذاك الذي كتبْتُ له، قال: أيْ رَبِّ، فإني قد جعلتُ له من عمري ستين سنة، قال: أنت وذاك، قال: ثم أُسْكِنَ الجنةَ ما شاء الله، ثم أُهْبِطَ منها، فكان آدم يَعُدُّ لنفسه، قال: فأتاه ملك الموت، فقال له آدم: قد عجلتَ، قد كُتِبَ لي ألفُ سنةٍ، قال: بلى، ولكنك جعلْتَ لابنك داودَ ستين سنة، فجحد فجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُه، ونسيَ فنسِيَتْ ذريته، قال: فمِنْ يومئذٍ أُمِرَ بالكتاب والشهود))، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبدالرزاق حدثنا مَعْمَرٌ عن همام بن مُنَبِّه، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أحاديث، منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جاء ملكُ الموت إلى موسى عليه السلام، فقال له: أَجِبْ ربَّكَ، قال: فلطَمَ موسى عليه السلام عَيْنَ مَلَكِ الموت، ففقأها، قال: فرجع الملَك إلى الله تعالى، فقال: إنك أرسلتَني إلى عبدٍ لك لا يريد الموت، وقد فقأ عيني، قال: فَرَدَّ الله إليه عينه وقال: ارجع إلى عبدي، فَقُلْ: الحياةَ تُرِيدُ؟ فإن كنت تريد الحياة فضَعْ يدك على متن ثورٍ، فما توارت يدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة، قال: ثم مَهْ؟ قال: ثم تموت، قال: فالآن مِنْ قريبٍ، رب، أمِتْني من الأرض المقدَّسَةِ رميةً بحجرٍ))، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله، لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر)).
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ((إن المؤمن إذا حضره الموت، بُشِّرَ برضوان من الله وكرامة، فليس شيء أحبَّ إليه مما أمامه، وأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه))، قال ابن مسعود: إذا جاء ملَك الموت لقبض روح المؤمن، قال له: إن ربك يُقرِئُكَ السلام، وقال محمد بن كعب: يقول له ملك الموت: السلام عليك يا وَلِيَّ الله، واللهُ يقرئك السلام، ثم قال: ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ﴾ [النحل: 32]، وقال زيد بن أسلم: تأتي الملائكة للمؤمن إذا احتُضِرَ وتقول له: لا تَخَفْ مما أنت قادم عليه، فيُذْهِبُ اللهُ خوفَه، ولا تحزن على الدنيا وأهلها، وأبشِرْ بالجنة، فيموت وقد جاءته البشرى.