شرح حديث: إني لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى
لحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
ما حكم الوصال في الصيام؟
متن الحديث:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال. قالوا: إنك تواصل. قال: «إني لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى». ورواه أبو هريرة وعائشة وأنس بن مالك.
ولمسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السَّحر».
الشرح:
حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه يقول: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال" والوصال: هو متابعة الصوم دون الإفطار بالليل، قاله القاضي عياض. ويقول ابن الأثير، الوصال: ألا يفطر يومين أو أياماً، فهذا هو الوصال، فيجعل الليل كالنهار، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال.
فالنهي عن الوصال في الصوم، لما فيه من الضرر الحاصل أو المتوقع، وشريعة الإسلام هي شريعة اليسر، ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، فهي شريعة ميسرة سمحة لا عنت فيها ولا مشقة.
والشارع الحكيم: يكره التعمق والغلو، وتعذيب النفس وإرهاقها، فالله لا يكلف نفساً إلا وسعها، ثم إن النهي عن الوصال، هو من باب التيسير والتسهيل، ليبقى عمل الإنسان ويدوم، وأيضاً هو سلامة من الملل والسآمة، وفيه إعطاء النفس حقها، وعدم إهمال الأمور الأخرى، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الوصال، لما فيه من الضرر الحاصل أو المتوقع.
أما حديث أبي سعيد، فالمؤلف يقول: ولمسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السَّحر»، قول المصنف: ولمسلم، هذه لعلها سبقة قلم من المؤلف، فهذه ليست في مسلم، بل رواها البخاري بلفظ: «لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السَّحر» فهذا يدل على جواز الوصال إلى السَّحر، يعني من أحب أن يواصل فإنه يواصل إلى السَّحر.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «إني لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى» فيه جواز الوصال للنبي صلى الله عليه وسلم دون أمته صلوات الله وسلامه عليه، وفي اللفظ الآخر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لي مطعم يطعمني، وساق يسقيني»، وهذا في الصحيحين، وعند الإمام أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني» فالنبي صلى الله عليه وسلم جائز له أن يواصل دون أمته، فهو القائل: «لست كهيئتكم» صلوات الله وسلامه عليه.
ولذلك من أحب أن يواصل فإنه يواصل إلى السَّحر.
وقول الصحابة رضي الله عنهم: "إنك تواصل" هذا ليس فيه اعتراض، وإنما هو سؤال واستفسار عن شأنه صلى الله عليه وسلم أنه يواصل، ونهى عن الوصال، لأنه قدوة لأصحابه أجمعين، وكان إذا أمرهم صلى الله عليه وسلم بأمر ابتدروا أمره صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فلذلك سألوه فأجابهم: «إني لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى» وهذا فيه بيان حسن تعليم وتربية النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه بين لصحابته سبب الفرق بينه وبينهم، فإنه يطعم ويسقى صلى الله عليه وسلم ليزدادوا طمأنينة وتسليماً لهذا الحكم.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: «إني أطعم وأسقى» فبعض العلماء يرى أنه على حقيقته، فيرى أنه طعام وشراب حسِّي تمسكاً بظاهر الحديث.
والقول الثاني وهو الراجح: أنه ليس على حقيقته، فهو يُريد صلى الله عليه وسلم ما يعطيه الله تبارك وتعالى لنبيه من قوة الطاعم والشارب والآكل، لاستغنائه عن المطعومات والمشروبات بما في قلبه من ذكر الله تعالى، والأُنس به سبحانه وتعالى، فيستغني بهذه الفيوضات التي تأتيه من ربه عن الطعام والشراب، وهذا هو القول الراجح، وقال ابن كثير: " الأظهر أن الطعام والشراب في حقه صلى الله عليه وسلم إنما كان معنوياً لا حسِّياً، وإلا فلا يكون مواصلاً مع الحسِّي"، كذلك أشار إليه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وأذكر في هذا الباب أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، كان قليلاً ما يأكل الطعام، أو يتناول الشراب، وينشد كثيراً بيت المتنبي: لها أحاديث من ذكراك تشغلها .. عن الشراب وتلهيها عن الزاد.
أيضاً من فوائد هذا الحديث: حكم الوصال؟
الوصال اختلف فيه أهل العلم -رحمهم الله تعالى- على أقوال كثيرة، وملخصها ثلاثة أقوال:
أنه محرم، وبعضهم قال: مكروه، وبعضهم قال: جائز مع القدرة، فإن جمهور أهل العلم ذهبوا إلى تحريمه، وبعض السلف قالوا: بجوازه مع القدرة، عبد الله بن الزبير وبعض السلف قالوا بذلك.
وأما جمهور أهل العلم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعي، فيذهبون إلى تحريمه، وأما الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وإسحاق وجماعة من المالكية، فذهبوا إلى التفصيل، فهو عندهم جائز إلى السَّحر، عملاً بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، مع أن الأولى ترك الوصال تحقيقاً لتعجيل الإفطار، وأيضاً مكروه إذا زاد عن يوم وليلة، وهذا التفصيل الذي اختاره الإمام أحمد من أنه جائز إلى السَّحر، هو أعدل الأقوال كما قال: العلامة ابن القيم لحديث أبي سعيد رضي الله عنه: «فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السَّحر»، فهذا هو أعدل الوصال وأسهله، لأنه في الحقيقة أخر عشاءه، ونعلم أن الصائم في اليوم والليلة له أكلة، فكأنه آخرها فجعلها مع السَّحور، ولكن الأحسن والأولى أن يترك الوصال مطلقاً للحرص على سنَّة التعجيل بالفطر، ففطر الإنسان في أول الليل لا شك أنه أفضل وأولى لحديث: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر» و «أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً».
وقول المصنف رحمه الله تعالى في الحديث: ورواه أبو هريرة وعائشة وأنس بن مالك، يعني رووه بألفاظ متقاربة، وهذه الأحاديث التي ذكرها عن أبي هريرة وعائشة وأنس كلها في الصحيحين، نسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|