المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
بعد انتصار بدر كان لا بد من تحديد المواقف والالتزامات، وبيان طبيعة العَلاقات بين المسلمين وبعضهم وبين المسلمين وغيرهم، وإعادة رسم الخريطة[1] السياسية والاجتماعية حسب الواقع الجديد، فقد أصبح المسلمون قوَّةً يُحسَب لها حساب في مواجهة قُوى الشرك، ومن مبادئ الحرب والسلم التي جاء تقريرها في ختام السورة الكريمة، أحكام الولاية الخاصة بالمؤمنين والكافرين؛ أما المؤمنون، فقد جاء ذكر ثلاثة أصناف لم يكن هناك وقتها غيرهم، وهم:
الصنف الأول: الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم (المهاجرون).
الصنف الثاني: الذين آووا ونصروا (الأنصار).
الصنف الثالث: الذين آمنوا ولم يهاجروا؛ (أي إلى المدينة المنورة)، ثم:
الصنف الرابع: الذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا (من بعد نزول الآيات).
وهؤلاء الأصناف الأربعة يجمع بينهم عاملٌ مشترك هو الإيمان، لكن الأحكام تختلف حسب مواقفهم وإقامتهم في المدينة أو في مكة، ثم جاء ذكر الكافرين وما بينهم من ولاء.
وتقرِّر الآيات أن الرباط الذي يجمع يبن المؤمنين هو رباط العقيدة، وأن الأساس الذي يقوم عليه الولاء (أو الولاية) هو أخوَّة الدين، وصلة الإيمان لا صلة الدم والرحم، جاء في الظلال:
(وأخيرًا يختم هذا الدرس، وتختم السورة معه، ببيان طبيعة العَلاقات في المجتمع المسلم، وطبيعة العلاقات بينه وبين المجتمعات الأخرى، وبيان الأحكام المنظِّمة لهذه العلاقات وتلك، ومنه تتبين طبيعة المجتمع المسلم ذاته، والقاعدة التي ينطلق منها، والتي يقوم عليها كذلك، إنها ليسَتْ علاقة الدم، ولا علاقة الجنس، ولا علاقة التاريخ أو اللغة أو القرابة، وليست الوطنية أو القومية، إنما هي عَلاقة العقيدة، وعلاقة القيادة، وعلاقة التنظيم الحركي، فالذين آمنوا وهاجروا إلى دار الهجرة والإسلام، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذين آووهم ونصروهم، ودانُوا معهم لعقيدتهم وقيادتهم في تجمُّع حركي واحد، أولئك بعضهم أولياء بعض.
والذين آمنوا ولم يهاجروا ليس بينهم وبين المجتمع المسلم ولايةٌ؛ لأنهم لم يتجرَّدوا بعد للعقيدة، ولم يدينوا بعد للقيادة، ولم يلتزموا بعد بتعليمات التجمُّع الحركي الواحد، وفي داخل هذا التجمع الحركي الواحد تعتبر قرابة الدم أولى في الميراث وغيره، والذين كفروا بعضهم أولياء بعض كذلك، هذه هي الخطوط الرئيسية في العَلاقات والارتباطات كما تصورها النصوص)[2].
يقول الله عز وجل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: 72].
إن من بدائع السورة المباركة أنها استهلَّت بذكر صفات المؤمنين وختمت بذكر أصناف المؤمنين، وفيما بين الصفات والأصناف كان الحديث عن التربية الإيمانية في جانبها العملي التطبيقي، وكان الحديث عن بعض أحكام القتال، ومبادئ الحرب والسلام، وفي ذلك حكم ودروس؛ لعل منها:
1- أن الإيمان ليس كلامًا نظريًّا، ولا مجرد مشاعر محبوسة لا تترجم إلا في بكاء أو وجل، إنما الإيمان الحق هو الذي يدفع صاحبه إلى العمل المخلص الجاد، الذي يعود بالنفع العام على الدعوة الإسلامية، وإحقاق الحق وإبطال الباطل ومنع الفتنة.
2- أن أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله تعالى هو الهجرة والجهاد بالمال والنفس، والإيواء والنصرة، وهو ما تمثل في إيمان المهاجرين والأنصار.
3- أن ثمرة الإيمان وأهم لوازمه هو البراء من الكفر والكافرين، والولاء لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، قال تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 256]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [المائدة: 55، 56].
4- أنه من خلال دراسة السورة المباركة، فقد تبيَّن أنها تُشكِّل وحدة موضوعية متكاملة، يتعانق فيها المطلع والختام، وبراعة الاستهلال وروعة الانتهاء؛ ففي مطلعها ذكر صفات المؤمنين حقًّا وبيان جزائهم، وهو: ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الأنفال: 4]، فكأن المؤمنين ﴿ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [الأنفال: 2، 3]، هم ذاتهم الذين ﴿ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا ﴾ [الأنفال: 72]، ويظل الباب مفتوحًا، وصلةُ العقيدة قائمة، والولاء مستمرًّا، والثناء والجزاء كذلك لمن جاء بعدهم واتصف بصفاتهم وعمل مثلَ عملِهم؛ من الإيمان والهجرة والجهاد والإيواء والنصرة، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ ﴾ [الأنفال: 75]، وهي ختام السورة.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|