غزوة بدر ودعوة المشركين للمبارزة
كانت المبارزة أول شيء بُدئ فيه من القتال يوم بدر، وجرت العادة أنه لا يخرج للمبارزة إلا الشجعان من الرجال، وهذا ما حصل في بدر.
قال تعالى: ﴿ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ ﴾ [الحج: 19].
روى البخاري في صحيحه من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: "أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة"[1].
وروى البخاري بسنده عن علي – رضي الله عنه – أنه قال: "فينا نزلت هذه الآية ﴿ هَذَانِ خَصْمَانِ... ﴾الآية"[2].
وقال قيس بن عبادة: وفيهم نزلت ﴿ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ﴾، قال: هم الذين بارزوا يوم بدر، علي وحمزة وعبيدة، وشيبة ابن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة[3].
وروى البخاري بسنده إلى قيس بن عبادة عن أبي ذر- رضي الله عنه - أنه كان يقسم فيها إن هذه الآية ﴿ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ﴾ نزلت في حمزة وصاحبيه، وعتبة وصاحبيه، يوم برزوا في يوم بدر[4].
وروى البخاري بسنده إلى أبي إسحاق، سأل رجل البراء وأنا أسمع، قال: أشهد علي بدراً؟ قال: بارز وظاهر[5] [6].
قال ابن إسحاق: ثم خرج عتبة بن ربيعة، وتبعه أخوه شيبة بن ربيعة، وابنه الوليد بن عتبة، حتى إذا فصل[7] من الصف دعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة، وهم عوف ومعوذ ابنا الحارث، وأمهما عفراء، ورجل آخر يقال هو عبد الله بن رواحة، فقالوا: من أنتم؟ فقالوا: رهط من الأنصار، قالوا: ما لنا بكم من حاجة، ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج لنا أكفاءنا من قومنا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا علي"، فلما قاموا ودنوا منهم قالوا: من أنتم؟ قال عبيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال علي: علي، قالوا: نعم، أكفاء كرام، فبارز عبيدة - وكان أسن القوم - عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز علي الوليد بن عتبة، فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين، كلاهما أثبت صاحبه، وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا [8] عليه، واحتملا صاحبهما، فحاذاه إلى أصحابه[9].
وقد حصل اختلافات في الروايات بين أسماء الذين تبارزوا يوم بدر من الصحابة والمشركين.
فقد روى الطبراني من حديث علي ٍ- رضي الله عنه - قال: أعنت أنا وحمزة عبيدة بن الحارث يوم بدر على الوليد بن عتبة، أظنه قال: فلم يغب ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم -[10].
وروى أبو داود في سننه من حديث علي - رضي الله عنه - قال: تقدم عتبة ابن ربيعة، وتبعه ابنه وأخوه، فنادى: من يبارز؟ فانتدب له شباب من الأنصار، فقال: من أنتم؟ فأخبروه، فقال: لا حاجة لنا فيكم، إنما أردنا بني عمنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيدة بن الحارث"، فأقبل حمزة إلى عتبة، وأقبلت إلى شيبة، واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان، فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم ملنا على الوليد فقتلناه، واحتملنا عبيدة [11].
قال ابن حجر بعد ذكره لحديث علي السابق في سنن أبي داود: "وهذا أصح الروايات، لكن الذي في السير من أن الذي بارز علي هو الوليد، وهو المشهور اللائق بالمقام؛ لأن عبيدة وشيبة كانا شيخين كعتبة وحمزة، بخلاف علي والوليد، فكانا شابين"[12].اهـ
والذي يظهر لي من الحديثين السابقين أن حمزة لعتبة، وعبيدة للوليد، وعلي لشيبة، وذلك لأنه مروي بأصح الأسانيد وأقواها، كما قال ابن حجر، وأما الرواية التي في السير، فإنها رويت بغير إسناد.
قال ابن كثير - رحمه الله - بعدما نقل أقوال المفسرين في قوله تعالى: ﴿ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ﴾: وقول مجاهد وعطاء، أن المراد بهذه الكافرون والمؤمنون، يشمل الأقوال كلها، وينتظم فيه قصة بدر وغيرها، فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله - عز وجل -، والكافرين يريدون إطفاء نور الإيمان، وخذلان الحق، وظهور الباطل، وهذا اختيار ابن جرير، فقد قال: "وأولى الأقوال عندي بالصواب، وأشبهها بتأويل الآية قول من قال: عنى بالخصمين جميع الكفار من أي أصناف الكفر كانوا، وجميع المؤمنين، وإنما قلت أولى بالصواب لأنه تعالى ذكر قبل ذلك صنفين من خلقه، أحدهما أهل طاعة له بالسجود له، والآخر أهل معصية له، قد حق عليه العذاب، فقال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴾ [الحج: 18]. ثم قال: ﴿ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ﴾ [الحج: 18]. ثم أتبع ذلك صفة الصنفين كليهما، وما هو فاعل بهما، فقال: ﴿ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ ﴾ [الحج: 19]. وقال الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾ [الحج: 14].
فكان بينا بذلك أن ما بين ذلك خبر عنهما، فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما روي عن أبي ذر في قوله إن ذلك نزل في الذين بارزوا يوم بدر؟ قيل ذلك إن شاء الله كما روي عنه، ولكن الآية قد تنزل بسبب من الأسباب، ثم تكون عامة في كل ما كان نظير ذلك السبب، وهذه من تلك، وذلك أن الذين تبارزوا إنما كان أحد الفريقين أهل شرك وكفر بالله، والآخر أهل إيمان وطاعة له، فكل كافر في حكم فريق الشرك منهما في أنه لأهل الإيمان خصم، وكذلك كل مؤمن في حكم فريق الإيمان منهما في أنه لأهل الشرك خصم"[13].
وقول ابن جرير وابن كثير رحمهما الله، مما تميل إليه النفس، وأن الآية عامة تشمل المؤمنين والكافرين، وإن كانت نزلت في قصة بدر.
وفي بداية المعركة رُمي مهجع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل، فكان أول قتيل من المسلمين[14]، ثم رمي حارثة بن سراقة أحد بني عدي ابن النجار، وهو يشرب من الحوض بسهم، فأصاب نحره فقتل[15].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|