حدث في السنة الثامنة من الهجرة (6)
15- وفي رمضان من هذه السنة: كانت سريةُ أبي قتادة الأنصاري - رضي الله عنه - إلى إضَمٍ للتمويه على المشركين.
الشرح:
قال ابن سعد - رحمه الله -:
قالوا: لما هَمَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغزو أهل مكة بعث أبا قتادة بن ربعي في ثمانية نفر سرية إلى بطن إضَم، وهي فيما بين ذي خُشُب وذي المروة، وبينها وبين المدينة ثلاثة بُرَد، ليظنَّ ظانٌّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توجه إلى تلك الناحية، ولأن تذهب بذلك الأخبار، وكان في السرية مُحَلِّم بن جثَّامة الليثي، فمرَّ عامر بن الأضبط الأشجعي، فسلَّم بتحية الإسلام، فأمسك عنه القوم، وحمل عليه محلِّم بن جثامة فقتله وسلبه متاعه وبعيره ووطْب لبن[1] كان معه، فلما لحقوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - نزل فيه القرآن: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا ﴾ إلى آخر الآية [النساء: 94]، فمضوا فلم يلقوا جمعًا، فانصرفوا حتى انتهوا إلى ذي خُشُب، فبلغهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد توجَّه إلى مكة، فأخذوا على بين[2]، حتى لقوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسُّقيا[3].
16- وفي رمضان من هذه السنة: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجيشه من المدينة لفتح مكة.
الشرح:
عَنْ عبدالله بن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ فِي رَمَضَانَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَذَلِكَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِ سِنِينَ وَنِصْفٍ مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ، فَسَارَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَكَّةَ[4].
وقد تكتم النبي - صلى الله عليه وسلم - الخبر وحرص على السرية التامة، حتى لا يصل الخبر لقريش فيستعدوا له.
عن عائشة رضي الله عنها أنَّ أبا بكر دخل عليها وهي تُغربل حِنطة، فقال: ما هذا؟ أمركم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجهاز؟ قالت: نعم فتجهزْ، قال: وإلى أين؟ قالت: ما سمَّى لنا شيئًا، غير أنه قد أمرنا بالجهاز[5].
واستخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة أبا رهم كلثوم بن حُصين بن عتبة بن خلف الغفاريَّ[6].
17- وفي رمضان من هذه السنة: جاء العباس بن عبدالمطلب بعياله من مكة مهاجراً إلى المدينة، فالتقى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بالجُحْفة.
الشرح:
قال ابن إسحاق - رحمه الله -:
وقد كان العباس بن عبدالمطلب لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببعض الطريق.
قال ابن هشام - رحمه الله -:
لقيه بالجحفة مهاجرًا بعياله، وقد كان قبل ذلك مقيمًا بمكة على سقايته، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه راضٍ. فيما ذكر ابن شهاب الزهري[7].
18- وفي رمضان من هذه السنة: جاء مَخْرمة بن نوفل، وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب، وعبد الله بن أبي أمية، فالتقوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأسلموا.
الشرح:
قد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب وعبدالله بن أبي أمية قد لقيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضًا بنيق العُقاب، فيما بين مكة والمدينة، والتمسا الدخول عليه، فكلمته أم سلمة فيهما - وهي أخت عبدالله بن أبي أمية- فقالت: يا رسول الله ابن عمك، وابن عمتك وصهرك، قال: "لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي فهو الذي قال لي بمكة ما قال" فلما خرج إليهما الخبر بذلك ومع أبي سفيان بنيّ له، فقال: والله ليأذننَّ لي أو لآخذنَّ بيد بنيَّ هذا، ثم لنذهبنَّ في الأرض حتى نموت عطشًا وجوعًا، فلما بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - رق لهما، ثم أذن لهما فدخلا عليه فأسلما[8].
ولقيه مخرمة بن نوفل بنيق العُقاب أيضًا[9].
19- وفي رمضان من هذه السنة: وقبل دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة أسلم أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حِزام وبُديل بن ورقاء.
الشرح:
عن عروة بن الزبير قَالَ: لَمَّا سَارَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الْفَتْحِ فَبَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا، خَرَجَ أبو سُفْيَانَ بن حَرْبٍ، وَحَكِيمُ بن حِزَامٍ، وَبُدَيْلُ بن وَرْقَاءَ يَلْتَمِسُونَ الْخَبَرَ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأَقْبَلُوا يَسِيرُونَ حَتَّى أَتَوْا مَرَّ الظَّهْرَانِ، فَإِذَا هُمْ بنيرَانٍ كَأَنَّهَا نِيرَانُ عَرَفَةَ، فَقَالَ أبو سُفْيَانَ: مَا هَذِهِ؟ لَكَأَنَّهَا نِيرَانُ عَرَفَةَ، فَقَالَ بُدَيْلُ بن وَرْقَاءَ: نِيرَانُ بني عَمْرٍو، فَقَالَ أبو سُفْيَانَ: عَمْرٌو أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، فَرَآهُمْ نَاسٌ مِنْ حَرَسِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَأَدْرَكُوهُمْ فَأَخَذُوهُمْ فَأَتَوْا بِهِمْ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَأَسْلَمَ أبو سُفْيَانَ[10].
وفي رواية: عن عروة أن حكيم بن حزام وبُديل بن ورقاء ذهبا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أبي سفيان فأسلما[11].
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا نَزَلَ النبي - رضي الله عنه - بمَرِّ الظَّهْرَانِ، قَالَ الْعَبَّاسُ: وَاللَّهِ لَئِنْ دَخَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ عَنْوَةً قَبْلَ أَنْ يَأْتُوهُ فَيَسْتَأْمِنُوهُ إِنَّهُ لَهَلَاكُ قُرَيْشٍ، فَجَلَسْتُ عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ: لَعَلِّي أَجِدُ ذَا حَاجَةٍ يَأْتِي أَهْلَ مَكَّةَ، فَيُخْبِرُهُمْ بِمَكَانِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لِيَخْرُجُوا إِلَيْهِ، فَيَسْتَأْمِنُوهُ فَإِنِّي لَأَسِيرُ إِذْ سَمِعْتُ كَلَامَ أبي سُفْيَانَ، وَبُدَيْلِ بن وَرْقَاءَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا حَنْظَلَةَ، فَعَرَفَ صَوْتِي، فَقَالَ: أبو الْفَضْلِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: مَا لَكَ فِدَاكَ أبي وَأُمِّي؟! قُلْتُ: هَذَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَالنَّاسُ، قَالَ: فَمَا الْحِيلَةُ؟ قَالَ: فَرَكِبَ خَلْفِي وَرَجَعَ صَاحِبُهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَوْتُ بِهِ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَأَسْلَمَ، فقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ هَذَا الْفَخْرَ، فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا، قَالَ: "نَعَمْ مَنْ دَخَلَ دَارَ أبي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ"، قَالَ: فَتَفَرَّقَ النَّاسُ إِلَى دُورِهِمْ وَإِلَى الْمَسْجِدِ[12].
فقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لِلْعَبَّاسِ: "احْبِسْ أَبَا سُفْيَانَ عِنْدَ خطم الجبل حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ"، فَحَبَسَهُ الْعَبَّاسُ، فَجَعَلَتْ الْقَبَائِلُ تَمُرُّ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، تَمُرُّ كَتِيبَةً كَتِيبَةً عَلَى أبي سُفْيَانَ، فَمَرَّتْ كَتِيبَةٌ، قَالَ: يَا عَبَّاسُ مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: هَذِهِ غِفَارُ، قَالَ: مَا لِي وَلِغِفَارَ، ثُمَّ مَرَّتْ جُهَيْنَةُ، قَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَرَّتْ سَعْدُ بن هُذَيْمٍ، فَقَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ، وَمَرَّتْ سُلَيْمُ، فَقَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى أَقْبَلَتْ كَتِيبَةٌ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا، قَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْأَنْصَارُ عَلَيْهِمْ سَعْدُ بن عُبَادَةَ مَعَهُ الرَّايَةُ، فَقَالَ سَعْدُ بن عُبَادَةَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ، فَقَالَ أبو سُفْيَانَ: يَا عَبَّاسُ حَبَّذَا يَوْمُ الذِّمَارِ[13]، ثُمَّ جَاءَتْ كَتِيبَةٌ وَهِيَ أَقَلُّ الْكَتَائِبِ فِيهِمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ، وَرَايَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ الزُّبَيْرِ بن الْعَوَّامِ، فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِأبي سُفْيَانَ، قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَ سَعْدُ بن عُبَادَةَ؟ قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا قَالَ؟"، قَالَ: كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: "كَذَبَ سَعْدٌ[14]، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ الله فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ"، قَالَ: وَأَمَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تُرْكَزَ رَايَتُهُ بِالْحَجُونِ[15].
وقيل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الراية من سعد بن عبادة فدفعها إلى ابنه قيس، ثم كلم سعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ الراية من ابنه قيس مخافة أن يقع في خطأ، فأخذها منه[16].
(الأغصان الندية شرح الخلاصة البهية في ترتيب أحداث السيرة النبوية)
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|