شرح حديث مثل الصلوات الخمس
إنَّ الحمد لله -تعالى- نَحمَده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله -تعالى- من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يَهدِ الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأَشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ مُحمدًا عبده ورسوله.
أمَّا بعد:
فسأقوم في هذا المقال باستعراضٍ مختصر لأقوال العلماء في شرح هذا الحديث.
أولاً: نص الحديث:
عن جابر بن عبدالله، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مَثلُ الصلوات الخَمْس كمَثَلِ نَهْر جارٍ غَمْرٍ على باب أحدكم، يَغتسِل منه كلَّ يوم خَمْس مراتٍ))، قال: قال الحسن: "وما يُبقِي ذلك من الدَّرن؟"؛ رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضِع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة تُمحَى به الخطايا، وتُرفع به الدرجات.
قال النووي: "الغَمْر بفتح المعجمة وإسكان الميم، وهو الكثير، قوله: على باب أحدكم: إشارة إلى سهولتِه وقُرْب تَناوُله".
قال ابن العربي: "وجه التمثيل أنَّ المرء كما يَتدنَّس بالأقذار المحسوسة في بدنِه وثيابه، ويُطهِّره الماءُ الكثير، فكذلك الصلوات تُطهِّر العبدَ عن أقذار الذنوب؛ حتى لا تُبقِي له ذنبًا إلا أَسقطتْه"؛ انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: "وظاهره أنَّ المُراد بالخطايا في الحديث، ما هو أعمُّ من الصغيرة والكبيرة، لكن قال ابن بطال: يُؤخَذ من الحديث أنَّ المُراد الصغائر خاصَّةً؛ لأنَّه شَبَّه الخطايا بالدرن، والدرن صغير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه من القروح والخُرَّاجات، وهو مَبنيٌّ على أنَّ المراد بالدرن في الحديث: الحبُّ، والظاهِر أنَّ المراد به الوَسَخ؛ لأنَّه هو الذي يُناسِبه الاغتسال والتنظُّف، وقد جاء من حديث أبي سعيد الخُدري التصريح بذلك، وهو فيما أخرجه البزَّار والطبراني بإسنادٍ لا بأس به من طريق عطاء بن يَسار، أنَّه سَمِع أبا سعيد الخدري يُحدِّث أنَّه سَمِع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((أرأيتَ لو أنَّ رجلاً كان له مُعتملٌ، وبين منزله ومُعتملِه خمسة أنهار، فإذا انْطلَق إلى مُعتَملِه، عَمِل ما شاء الله، فأصَابه وسَخٌ أو عَرَق، فكلَّما مَرَّ بنَهر اغتسل منه))؛ الحديثَ.
ولهذا قال القرطبي: ظاهِر الحديث أنَّ الصلوات الخمس تَستقلُّ بتكفير جميع الذنوب، وهو مُشكِل، لكن رَوَى مسلم قَبْله حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا: ((الصلوات الخمس كفارة لما بينها، ما اجْتُنبتِ الكبائر))، فعلى هذا المُقيّد يُحمَل ما أُطلِق في غيره.
فائدة: قال ابن بزيزة في شرْح الأحكام: يتوجَّه على حديث العلاء إشكال يَصعُب التخلُّص منه، وذلك أنَّ الصغائر بنصِّ القرآن مُكفَّرة باجتناب الكبائر، وإذا كان كذلك، فما الذي تُكفِّره الصلوات الخمس؟ وقد أجاب عنه شيخنا الإمام البلقِيني: بأنَّ السؤال غير وارِد؛ لأنَّ مُراد الله أن تَجتنِبوا؛ أي: في جميع العمر، ومعناه المُوافاة على هذه الحالة من وقت الإيمان أو التكليف إلى الموت، والذي في الحديث أنَّ الصلوات الخمس تُكفِّر ما بينها؛ أي: في يومها، إذا اجتُنِبت الكبائر في ذلك اليوم؛ فعلى هذا لا تَعارُض بين الآية والحديث؛ انتهى.
وعلى تقدير ورود السؤال، فالتخلُّص منه - بِحمْد الله - سَهل؛ وذلك أنه لا يتمُّ اجتناب الكبائر إلا بفعْل الصلوات الخمس، فمن لم يَفعلْها، لم يَعدْ مُجتنِبًا للكبائر؛ لأنَّ ترْكها من الكبائر، فوقَفَ التكفير على فِعْلها".
قال ابن جرير الطبري: "وقوله: ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: 114]، يقول - تعالى ذكره -: إنَّ الإنابة إلى طاعة الله، والعمل بما يُرضيه، يُذهبُ آثامَ معصية الله ويُكفِّر الذنوب، ثم اختلف أهل التأويل في الحسنات التي عَنى الله في هذا الموضِع اللاتي يُذهِبن السيئات، فقال بعضهم: هنَّ الصلواتُ الخمس المكتوبات".
رَوى الإمام أحمد في مُسنَده عن أبي عُثمان النَّهدي، قال: كنتُ مع سلمان الفارسي تحت شجرة، وأخذ منها غصنًا يابسًا، فهزَّه حتى تَحاتَّ ورقُه، ثم قال: يا أبا عثمان، ألا تسألني لم أفْعَل هذا؟ قلتُ: ولِمَ تفعلُه؟ فقال: هكذا فعل بي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا معه تحت شجرة، فأخذ منها غصنًا يابسًا، فهزَّه حتى تَحاتَّ ورقُه، فقال: ((يا سلمان: ألا تَسألني لِمَ أفعل هذا؟))، قلتُ: ولِم تفعله؟ قال: ((إنَّ المسلم إذا توضَّأ فأحسن الوُضُوء، ثم صلَّى الصلوات الخمس، تَحاتَّتْ خطاياه، كما يَتحاتُّ هذا الورق))، وقال: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114].
يقول الدكتور وجيه الشيمي: "في هذا الحديث بيَّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فضْلَ الصلوات الخمس، ويُرغِّب المسلمين فيها، فيُشبِّهها بالماء الجاري الذي يُزيلُ ما على الجسد من أوساخ".
وقال أيضًا: "فإذا قامت الصلاة بدورها في منْع المُصلِّي من الكبائر، غُفِرت له الصغائر، والذي يُقيم الصلاة على حقِّها، فيُؤدِّي أركانها، ويَخشَع فيها، ويُحافِظ عليها في وقتها - نَهتْه عن الفحشاء والمُنكَر، فقد كان هناك شابٌّ في عهْد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يترُك منكرًا إلا فعَله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((دَعُوه، فستنهاه صلاته))، حتى أقَلَع الشابُّ عن المعصية، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((ألَم أُخبِركم أنَّ الصلاة ستَنهاه؟))".
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|