النبي صلى الله عليه وسلم في بادية بني سعد
الخطبة الأولى
إن الحمدَ لله، نحمَده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يَهده الله فلا مُضل له، ومن يُضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله، نحمدك ربَّنا على ما أنعمتَ به علينا من نعمك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضل رُسلك، وأنزلت عَلينا خير كُتبك، وشرعت لنا أفضل شرائع دينك، فاللهم لكَ الحمدُ حتى ترضى، ولك الحمدُ إذا رضِيت، ولَك الحمدُ بعد الرِّضا؛ أما بعدُ أيُّها الإخوة المؤمنون:
تذكير وتمهيد: فقد تحدَّثنا في الخُطبة الماضية عن قِصَّةِ مَولِدِ خَيرِ الْبَرِّيةِ صلى الله عليه وسلم، وخلصنا إلى أنه وُلِد يوم الاثنين من شهر ربيع الأول من عام الفيل، واستفدنا من الدروس والعِبر:
• أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم يصومُ يوم الاثنين؛ لسَببين: الأول: أنَّه اليوم الذي وُلد فيه، والثاني: أن الأعمال تُعرض فيه على ربِّ العالمين مع يوم الخميس.
• أنَّ ما رأته أمُّه من النُّور عند ولادته إشارة إلى النور الذي اهتدى به أهل الأرض وجاء به، علينا اتباعه.
• أنَّ حظنا من أسمائه التسمِّي بمحمد وأحمد، والتعبد بمعانيها والصفات الحميدة التي اتَّصف بها، فنعمل أعمالًا تجلب لنا المحمدة عند الله، وعند الناس، ونكون رُحماء بيننا كما كان بالمؤمنينَ رؤوفًا رحِيما.
• وأن نلتزم سنَّته في الخِتان؛ لأنها الفِطرة، وعلاَمةٌ على الانتماء إلى أمَّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
ولا يزالُ الحديثُ مستمرًّا حول حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبلَ البِعثةِ، وحديثنا اليَومَ عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي بَادِيَةِ بَنِي سَعْد، فلماذا أُخِذ النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني سعد؟ وما هو الحدثُ الأبرزُ الذي وقع له في بني سعدٍ؟ موضوعُ خطبتنا باختصار.
عباد الله: لما وُلِد النبي صلى الله عليه وسلم تولَّى رضاعه أمُّه، وقد أرضعته أيَّامًا، ثم ثُوَيْبَة (جارية عمِّه أبو لهب).
وقفة في عتق ثويبة:أبو لهب أعتق هذه الجارية لمَّا بشرته بولادة النبي فرحًا، ليكون من ألد أعداء النبي المقربين له بعد مبعثه، قبل البشارة بمولدِه، ولم يقبلِ البِشارة بالنور الذي جاء به: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [القصص: 56]، غير أنه انتفع قليلًا بهذا العِتق؛ فقد روى البخاري في صحيحه عن عُروة قال: ((فَلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ حِيبَةٍ - شر حال - قَالَ لَهُ: مَاذَا لَقِيتَ؟ قَالَ أَبُو لَهَبٍ: لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ غَيْرَ أَنِّي سُقِيتُ فِي هَذِهِ بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ))[1]؛ أي: النقرَة بين الإبهَام والمُسبِّحة؛ أي: إنه سُقي شيئًا قليلًا من الماء لا يُذكر: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7]، ولا يُظلم ربُّك أحدًا.
وقد أرضعته مع عمِّه حمزة رضي الله عنه؛ فحمزة عمُّه وأخوه من الرضاع، وأرضعته مع أبي سَلمة بن عبدالأسَد المَخزومي؛ كما في الصحيحين[2]، ومع ابنٍ لها يُقال له: مَسرور، فهؤلاء إخوة النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاع من ثُوَيْبَةَ.
وقفة: يُحرم من الرَّضاع ما يُحرم من النَّسب: عُرضت على النبي صلى الله عليه وسلم ابنة حمزة للزواج بها فقيل له: ((ألا تزوج ابنةَ حَمزة، قال: إنَّها ابنةُ أخِي مِنَ الرضَاعَة))[3]؛ قال تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ ﴾ [النساء: 23]، وقال في الحديث الصحيح: ((يُحرم من الرَّضَاعِ ما يُحرمُ من النَّسبِ))[4].
عباد الله: بعد أمِّه وثويبة، أرضعته حليمةُ السَّعدية؛ ذلك أنَّها خرجت مع زوجها الحارث بن عبدالعُزى، من باديتهم بني سعد (115 كيلومترًا عن مكة)، في نِسوة من بني سعد، في سَنة جافة، ركبت على أتانٍ لها (أنثى الحَمير)، ما تكاد تمشي، ومعهم ناقة مُسِنَّة لا تبض لهم بِقَطرة، فوفدوا إلى مكة يلتمسون الرُّضعاء، قالت حليمة: فما منَّا امرأة إلا وقد عُرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه، إذَا قيل لها: إنه يَتيم، وذلك أنا كنَّا نرجو المعروفَ من أبي الصبي، فكنا نقول: يتيم، وما عسى أن تصنعَ أمُّه وجدُّه، فكنا نكرهُه لذلك، فما بَقيت امرأة قدِمت مَعي إلا أخذت رضيعًا غيري، فلما أجمعنَا الانطلاق، قلت لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحِبي ولم آخذ رضيعًا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنَّه، قال: لا عليكِ أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بَركة[5].
ولنا وقفة: مع البركة التي حصَلت لحليمة بأخذها للنبي صلى الله عليه وسلم:
1- لمَّا وضعت النبي صلى الله عليه وسلم في حجرها أقبل الحليب علي ثدييها، فشرب حتى روي، وشرب معه أخوه (عبدالله) حتى روي، ثم ناما، فهي أرضعته من ثديها رضاعة طبيعية - وكل مراضِع النبي صلى الله عليه وسلم كذلك - وهذه رسالة للأمهات بالقطع مع ثقافة الحليب الصناعي لِمَضَارِّه على صحة الأطفال وذكائهم، ولذلك قالت حليمة في وصف النبي صلى الله عليه وسلم وهو طفل: "فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلامًا جفرًا"؛ أي: قويًّا شديدًا، ولِفوائد الرضاعة الطبيعية على الطفل والأم معًا.
2- قام زوجها إلى ناقتهم التي لا تبض لهم بقطرة فوجدها ممتلئة لبنًا.
3- أتانُها تسبق ركب بني سعد حتى قالوا لها: ارفقي بِنا.
4- لمَّا وصلوا إلى البادية كان هناك جفاف، ولكن غنم حليمة يقدُم بها الراعي شباعًا لبنًا، فيحلبون ويشربون، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع، حتى كان الحاضرون من قومها يقولون لرعيانهم: ويلكم، اسرحوا حيث يسرح راعي بنتِ أبي ذؤيب.
وهذه البركة التي حَصلت بأخذِ النبي صلى الله عليه وسلم ووجودِه في بني سعد؛ لِلفتِ النظر منذ طفولته الأولى إلى أنَّ هذا الرضيع سيكون له شأن حينما يكبَر، وأنه سيأتي بالخير والبركة، وأن اتباع هديه نُقلة من الجفاف إلى الخِصب، ومن العَطش إلى الارتواء، وأنه سيُنقذ البشرية من ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام.
ونستفيد معنًى آخرَ: إيَّاك أن تحتقر إنسانًا لنُقصه أو يُتمه، وإيَّاك أن يكون تركيزك على المظاهر والشكليات، فحليمة في البِداية ما كانت لتأخذه لأنه يتيم، ولكن من هذا اليتيم المُحتقر جاء الخير والبركة.
قالت حليمة: "فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتان وفصلته، وكان يشب شبابًا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلامًا جفرًا"؛ أي: قويًّا شديدًا.
قالت: فقدمنا به على أمه، ونحن أحرص على مكثه فينا، لما كنا نرى من بركته، فكلمنا أمه، وقلت لها: لو تركت ابنكِ عندي حتى يغلُظَ؛ فإني أخشى عليه وبَاء مكة، قالت: فلم نزل بها حتى ردَّته معنا[6].
وقفة: من مقاصد إرسال قريش أبناءَها للرضاعة في البادية، هو الاستفادة من هواء البادية النقي والفيافي الواسعة فيلعبون ويمرحون، وهذا له انعكاس على الصحة البدنية والنفسية، ومقصد آخر هو تعلم العربية الفصيحة، التي لَم تخالطها اللهجات الأخرى، ونتساءل: أين الآباء من تعليم أبنائهم اللغة العربية؛ اللغة التي أنزل بها القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا ضاعت العربية، ضاع دينهم، فالدين لا يفهم إلا بالعربية، وتعلم العربية من تعلم الدِّين، فاحرصوا على تعليم أبنائكم لغة القرآن.
فاللهم فقِّهنا في سيرة نبيِّك، وارزقنا حبَّه، آمين، وآخر دعوانا الحمد لله ربِّ العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلَّم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن اقتفى؛ أمَّا بعد:
فقد رأينا في الخطبة الأولى مُرضعات النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهن: أمَّه وثويبة وحليمة، ورأينا ما حصل من البركة لحليمة بأخذها لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
عبادَ الله: لمَّا بلغ صلى الله عليه وسلم أربع سنوات وهو في بادية بني سعد، وقعت له حادثة شق الصدر؛ وهي القصة التي نختم بها خطبتنا:
روى الإمام مسلم في صحيحه: ((أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَتاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ فاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً، فَقالَ: هَذِهِ حَظُّ الشَّيْطانِ مِنْكَ، ثم غَسَلَهُ في طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بماءِ زَمْزَمَ ثُمَّ لَأَمَهُ، ثُمَّ أَعادَهُ في مَكانِهِ، قالَ وَجاءَ الْغِلْمانُ يَسْعوْنَ إلى أُمِّهِ - يَعْنِي: ظِئْرَهُ - فَقالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ، قالَ أَنَسٌ: وَكُنْتُ أَرَى أَثَرَ الْمِخْيَطِ في صَدْرِهِ))[7]، وفي رواية: ((... ثم قال أحدُهما لصاحبه: زِنْه بعشرةٍ من أمَّتِه فوزنَني بعشرةٍ فوزنتُهم، ثم قال: زِنْه بمائةٍ من أمَّتِه فوزنني بمائةٍ فوزنتُهم، ثم قال: زِنْه بألفٍ من أمتِه فوزنني بألفٍ فوزنتُهم، فقال: دَعْه عنك فلو وزنتَه بأمَّتِه لوزنَهم))[8]، ولنا وقفات مع هذه الحادثة:
الوقفة 1: الواجبُ على المسلمِ التصديقُ بهذه المعجزاتِ الثابتةِ، وهي صفةٌ لأهل الايمانِ، وألَّا يَسلك سبيل المُرجفينَ من المستشرقينَ وأذنابهم في بلادنا، فدائمًا يشكِّكون ويُنكرون هذه الحادثة بدعوى أنها تُخالف المألوفَ، ولا تخضعُ لمقاييس العقلِ والمنطقِ، والله لا يُعجزه شيء في الأرضِ ولا في السماءِ.
الوقفة 2: قال تعالى: ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ [الشرح: 1]، جَمعت بين شرحٍ حسيٍّ بشق صدر المصطفى صلى الله عليه وسلم، وشرحٍ مَعنوي بتطهير قلبه صلى الله عليه وسلم وتزكية نفسهِ، فهو صلى الله عليه وسلم النبي المطَهَّر مظهرًا ومخبَرًا، الجامعُ لمحاسِن الصِّفات ظاهرًا وبَاطنًا.
الوقفة 3: تعطينا هذه الحادثة بالنسبة لنا الاهتمام بتطهير قلوبنا دومًا، فلسنا كالأنبياء الذين عصَمهم الله بتطهيرهم من حظ الشيطان، فنحن معرَّضون لوساوسه وتلبيساتِه، فنعتصم بكتاب الله وسنة نبيه؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، ونستعين عليه بلزوم أهل الخير والصلاح والرفقة الحسنة، يعينونَك على الخير ويشجعونك عليه، ويذكِّرونك إذا غفلت، وإنَّما يأكل الذئبُ من الغنمِ القاصِية.
فاللَّهم فقِّهنا في سِيرة نبيِّك، واجعلنا ممن يتبعون هَديه، واحشرنا في زُمرته، واسقنا شَربة من حوضه، شربة لا نظمأ بعدها أبدًا، وارزقنا حبَّه وحبَّ من يُحبُّه، والعَمل الذي يبلِّغنا حبَّه، آمين. (تتمة الدعاء).
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|