الانتقام من الآخرين
شتم رجل الأحنف بن قيس كثيرًا، فلمَّا اقترب الأحنف من الحي الذي يسكن فيه، قال للذي يشتمه: يا هذا، إن كان بقي معك شيء، فقله هنا؛ لأني أخشى أن يؤذيك فِتْيان الحي إن سمعوك.
وعلى رأس هؤلاء جميعًا في قمة الصفح والعفو وكم الغيظ والحلم نبيُّنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد فعلت معه قريش ما فعلت من أذى وتعذيب، وطرد لأصحابه وتضييق على دعوته، ومع ذلك كله عندما فتح الله على يديه مكة، وأصبحت كلمة الله هي العليا، إذا به يجمعهم في صعيد واحد، ويسألهم: ماذا ترون أني فاعل بكم، فيقولون: خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم، فيقول: اذهبوا فأنتم الطُّلقاء.
هكذا يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ثلاث من كن فيه، آواه الله بكنفه وستر عليه برحمته، وأدخله في محبَّته؛ مَن إذا أُعطى شكر، وإذا قَدر غفر، وإذا غضب فتر)؛ رواه الحاكم.
ويتسع صدره الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - لبعض أقوال وأفعال نسائه، فها هي عائشة - رضي الله عنها - تقول للرسول: أنت الذي تزعم أنك نبي؟ فيسكت - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا يعنفها على ذلك، وتوكزه في صدره الشريف ذات مرة أمام أُمها، فتنهرها أُمُّها، فيقول الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((دعيها؛ إنهنَّ يفعلن أكثر من ذلك)).
وها هو - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعفو عن رأس المنافقين في المدينة عبدالله بن أبي بن سلول صاحب قالة السوء في أطهر الطاهرات عائشة - رضي الله عنها - يقول في حقها تلك الإشاعة الكاذبة؛ ليهز بها كيان المجتمع الإسلامي كله، وينزل القرآن ليبرأها من فوق سبع سماوات، ويوم أن يموت هذا المنافق يكفنه الرسول في قميصه، ويصلي عليه، ويستغفر له بعظيم من الأخلاق الطيبة؛ من حلم وعفو وصفح، لكن الله - جل وعلا - يحكم في القضية بقوله - تعالى -: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84].
فعلينا أن نقتدي برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في عزيم أخلاقه من عفو وصفح وغيره، وألا نعطي فرصة للشيطان؛ ليتغلب علينا، أو نمكِّن الغضب أو الحقد من قلوبنا، فتصبح هذه القلوب سوداء، فنكون بذلك قد خرجنا من معية أصحاب محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذين وصفهم الله - تعالى - بأول ما وصفهم بسلامة الصدر؛ يقول الله - تعالى -: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
والمؤمن حليم لا يجهل إن جهل عليه؛ يقول الله - تعالى - في عباد الرحمن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان: 63].
وصح عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن رجلين استبَّا عنده - صلَّى الله عليه وسلَّم - فجعل أحدهم يغضب ويحمر، وجهه وتنتفخ أوداجه، فنظر إليه الرسول، وقال: ((إني لأعلم كلمة لو قالها، لذهب عنهما هذا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم))، فقام إلى الرجل أحد ممن سمع الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقال له: هل تدري ما قال رسول الله آنفًا؟ قال: لا قال: ((إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه هذا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم))، فقال له الرجل: أمجنونًا تراني؟؛ رواه البخاري، وهكذا بلغ الغضب بهذا الرجل حدًّا لا يكترث فيه بالتوجيه النبوي.
إن محاولة القصاص دائمًا من الآخرين قد تودي بصحة الإنسان؛ حيث إن أبرز ما يميز الذين يعانون من ضغط الدم سرعة انفعالهم واستجابتهم لدواعي الغضب والحقد.
نسأل الله - تعالى - أن ينقِّي قلوبنا من الحقد والغيظ، ويملأها بالحب والرحمة؛ إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
وصلِّ اللَّهم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|