وصف مزاح النبي صلى الله عليه وسلم
إن من أخص خصائص الإسلام أنه دين واقعي، لا يغفل عن الواقع طرفة عين، ولا يطلب من أتباعه أن يكونوا ملائكة يمشون على الأرض، أو يعيشون في عالم مثالي مبتوت الصلة بالواقع، وإنما جاء ليمد جسور التواصل بين الإنسان والواقع، معترفًا بغرائز البشر، ومقدِّرًا لما جُبِلوا عليه؛ لذلك لم يكبلهم بأغلال تقيد حركاتهم وسلوكهم، فلا يتكلمون إلا ذكرًا، ولا يسمعون إلا قرآنًا، ولا يقضون فراغهم إلا في المساجد، فالحق عز وجل خلق البشر، وجبلهم على الفرح والمرح والضحك واللعب، بحيث يجدون في ذلك الملاذ الذي يهرعون إليه هروبًا من غلظ الحياة وقسوتها.
ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في المزج بين الدين والدنيا، فكانت حياته صلى الله عليه وسلم صورة رائعة لما ينبغي أن تكون عليه الحياة الإنسانية؛ فلم يكن فظًّا غليظًا، ولا جافًّا قاسيًا، وإنما هو مع ربه عبد شكور، يصوم حتى يقال إنه لا يفطر، ويفطر حتى يقال إنه لا يصوم، ويقوم حتى تتورم قدماه، مطيلاً الخشوع والبكاء، مستئنسًا في خلواته بعبادة ربه وطاعته، فإذا نزل بساحة الحياة كان بشرًا كسائر البشر؛ يمزح ويفرح ويهش ويبش ويداعب ويلاعب، فلم تكن حياته نمطًا واحدًا لا يعرف غيره، وإنما هو فيما يخص الدين نبي من الأنبياء، لا يقول إلا حقًّا، ولا ينطق إلا صدقًا.
أما ما يخص حياته، فهو بشر من البشر، يخضع لما فطروا عليه، ويسري عليه ما جبل البشر عليه؛ فيفرح كما يفرحون من غير إفراط ولا إيذاء لأحد، ويداعب كما يداعبون من غير أن تسقط المداعبة أسوار كماله، أو تنتقص من قدره وجلاله، ويمزح كما يمزحون من غير مجافاة للحق أو حيد عن الصدق، ويتفكه كما يتفكهون، من غير حمل لإثم أو سقوط في معصية، وكل أفعاله صلى الله عليه وسلم من مزاح وملاعبة وفكاهة ومداعبة كانت على هيئة وصفة لا تسقط الهيبة والعظمة من العيون، ولا تنحو بالنفس إلى الإفراط فيه، بحيث تتخذه ديدنًا لها وعادة من عاداتها، وفوق هذا وذاك تتحقق مصلحة ارتآها النبي صلى الله عليه وسلم، موقوتة بوقتها، توجد نوعًا من الأنس وتأليف القلوب، ومواساة الضعفاء والمحتاجين، والتفريج عنهم.
وقد تكلم العلماء في صفة مزاحه صلى الله عليه وسلم فقال الإمام الغزالي: فإن قلت: قد نقل المزاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فكيف ينهى عنه؟ فأقول: إن قدرت على ما قدر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو أن تمزح ولا تقول إلا حقًّا، ولا تؤذي قلبًا، ولا تفرط فيه، وتقتصر أحيانًا على الندور، فلا حرج عليك. ولكن من الغلط العظيم أن يتخذ الإنسان المزاح حرفة؛ يواظب عليه، ويفرط فيه، ثم يتمسك بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم فلا ينبغى أن يغفل عن هذا.
وقال الإمام ابن حجر الهيتمي: إن المداعبة لا تنافي الكمال، بل هي من توابعه ومتمماته إذا كانت جارية على القانون الشرعي، بأن تكون على وفق الصدق والحق، ويقصد (بها) تأليف قلوب الضعفاء وجبرهم، وإدخال السرور عليهم والرفق بهم، ومزاحه صلى الله عليه وسلم سالم من جميع هذه الأمور، يقع على جهة الندرة لمصلحة تامة، من مؤانسة بعض أصحابه، فهو بهذا القصد سنة، وما قيل: إن الأظهر أنه مباح لا غير. فضعيف؛ إذ الأصل من أفعاله صلى الله عليه وسلم وجوب أو ندب للتأسي به فيها، إلا لدليل يمنع من ذلك، ولا دليل هنا يمنع منه، فتعين الندب كما هو مقتضى كلام الفقهاء والأصوليين.
وإننا إذا استعرضنا صفحة حياته، نجد أمثلة كثيرة يمازح فيها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم بالقول والفعل، مع الأخذ في الاعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول إلا حقًّا، قال تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴾ [النجم: 3]. ورُوِي عن أبى هريرة رضي الله عنه أنه قال: قالوا: يا رسول الله، إنك تداعبنا! قال صلى الله عليه وسلم: "لا أقول إلا حقًّا" [1].
وفي رواية ابن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأمزح ولا أقول إلا حقًّا" [2].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|