الشَيخ العَلَّامَة أبو مُحمَّد يُوسُف بن عَبد القَادِر بن مُحَمَّد الحُسَينِي الأَسِير الصَّيدَاوِي الأَزْهَرِي الشَّافِعِي هو فقيه وفَرَضي وأديب وكاتب وشاعر ولُغوي وصحفي من أعلام النهضة العربيَّة أواخر العصر العُثماني. وُلد في مدينة صيدا الداخلة في نطاق إيالة عكَّا سنة 1232هـ المُوافقة لسنة 1817م حسب الزِّركلي، بينما حدَّد كحَّالة وجرجي زيدان سنة ولادته بأنَّها 1230هـ المُوافقة لسنة 1815م. نشأ في صيدا في كنف والده، وتلقَّى مبادئ العُلُوم، فختم القُرآن وهو في السابعة من عُمره، ثُمَّ اتَّجه إلى المدرسة المُراديَّة بدمشق ودرس بها حينًا قبل أن يعود إلى صيدا، ثُمَّ غادرها مُجددًا إلى القاهرة فأقام سبع سنين درس خلالها ودرِّس بالأزهر، واحتكَّ بعددٍ من مشاهير العُلماء والأعيان، ثُمَّ رجع إلى الشَّام ليشتغل بالتدريس والتأليف والقضاء والإفتاء، فتنقَّل بين صيدا وطرابُلس وبيروت، وتتلمذ على يديه بعض الأعلام الذين تبوَّأوا مناصب كبيرة لاحقًا، منهم يُوحنَّا الحاج الذي صار بطريقًا للموارنة، والمُطران يُوحنَّا الحبيب مُؤسس جمعية المُرسلين اللُبنانيِّين الموارنة، والمُستشرق الأمريكي الدكتور كرنيليوس ڤانديك،
وغيرهم.
تولَّى الأسير مناصب رسميَّة وعلميَّة عدَّة خلال حياته، فعُيِّن رئيسًا لكُتَّاب المحكمة الشرعيَّة ببيروت، ثُمَّ عُيِّن مُفتيًا لمدينة عكَّا، ثُمَّ مُدعيًا عامًّا في جبل لُبنان، ووُلِّي القضاء في المتن وكسروان.
وسافر إلى إستنبول عاصمة الدولة العُثمانيَّة، فعُيِّن رئيسًا لديوان التصحيح في نظارة المعارف وأُستاذًا لِلُغة العربيَّة في دار المُعلِّمين، ونال في أثناء إقامته بإستنبول مقامًا رفيعًا بين رجالها، وعرضوا عليه البقاء فيها وأن يتولَّى منصبًا رفيعًا، لكنَّ صحَّته لم تُسعفه فعاد إلى بيروت فكان مُعاونًا لقاضيها ومُدرِّسًا في بعض مدارسها، كمدرسة الحكمة والكُليَّة السوريَّة الإنجيليَّة وغيرها.انكبَّ الأسير على التأليف عند عودته إلى بيروت، وكان اشتغاله غالبًا في الفقه واللُّغة، فألَّف كتابًا في الفقه سمَّاه «رائض الفرائض»، وشرح كتاب «أطواق الذهب في المواعظ» للعلَّامة الزمخشري، ونظم كثيرًا في القصائد طُبع منها جانبٌ كبير في ديوانٍ يُعرف باسمه، ونشر أبحاثًا كثيرةً في الصُحُف، وتولَّى رئاسة التحرير لجريدتيّ «ثمرات الفُنُون» و«لسان الحال» مُدَّة. ومن أعماله المشهورة خلال هذه الفترة مُعاونته الدكتور ڤانديك والشيخ ناصيف اليازجي في تعريب الكتاب المُقدَّس، ونظم ترانيم روحيَّة مسيحيَّة يترنَّم بها النصارى الإنجيليُّون في المعابد والمنازل.تُوفي الأسير في بيروت يوم 6 ربيع الأوَّل 1307هـ المُوافق 28 تشرين الثاني (نوڤمبر) 1889م، ودُفن في جبَّانة الباشورة، وأبَّنه العُلماء والأُدباء والشُعراء، الذين وصل عددهم إلى عشرين. وجمع مراثيه الشيخان إبراهيم الأحدب وأبو الحسن الكستي في كُرَّاسٍ سنة وفاته، صُدِّرت فيها ترجمة الأسير.
أصله ونسبه
يرجع الأسير في نسبه إلى آل البيت. فأُسرته تنحدر من الحُسين بن علي بن أبي طالب، لذا يُقال لها «الأسير الحُسيني». وآل الأسير وفقًا للمُؤرِّخ البيروتي الدكتور حسَّان حلَّاق يعودون بجُذُورهم إلى القبائل العربيَّة لا سيَّما قبيلة بني جُذام التي أسهمت في فُتُوحات الشَّام ومصر والمغرب، مُنذ عهد الخليفة عُمر بن الخطَّاب وتحت قيادة الصحابي عمرو بن العاص. وأوردت الباحثة اللُبنانيَّة مُنى عُثمان حجازي النسب الكامل للأسير في رسالتها للماجستير نقلًا عن شجرة نسب عائلته المحفوظة لدى ابن حفيده أحمد بن حميد بن أحمد بن يُوسُف، وورد فيها أنَّهُ:
« يُوسُف بن عبد القادر بن مُحمَّد بن مُصطفى بن عبد الله بن عُثمان بن علي بن سيف الملَّة السيِّد السالار السنجري بن قُطب الدين بن علي بن الحُسين بن مسعود بن محمود بن خليل بن إبراهيم بن مُحمَّد عبَّاس بن حليم بن رُكن الدين بن غانم بن السيِّد زكي الدين سالم شقيق السيِّد مُحمَّد أبي الوفاء، ويتَّصل نسبه بالسَّادة الوفائيَّة، بالسيِّد زكي الدين سالم ابن مُحمَّد بن زين بن حسن بن زيد بن الإمام علي زين العابدين بن الإمام الحُسين ابن أمير المُؤمنين عليّ بن أبي طالبكرَّم الله وجهه. »
ولُقِّب بالـ«أزهري» لمُجاورته في الأزهر وأخذه العُلُوم العقليَّة والنقليَّة عن عُلمائه.
ومن المُتفق عليه أنَّ أُسرة الأسير نالت لقبها هذا نسبةً لأحد أجدادها الذي وقع في أسر الإفرنج بجزيرة مالطة، فعُرف بالأسير طيلة فترة أسره وبعد أن أُخلي سبيله وعاد إلى صيدا، وغلب هذا اللقب على لقبه العائلي الأصلي، وهو «سنجر». وقيل أنَّ أجداد هذه الأُسرة وفدوا من المغرب الأقصى إلى الشَّام، وأثناء مُرُور سفينتهم قُرب جزيرة مالطة أسرهم قراصنة الإسبتاريَّة، وبعد مُكوثهم في الأسر مُدَّة، أبحروا مُجددًا لساحل الديار الشَّاميَّة ونزلوا في صيدا، وعُرفوا مُنذُ ذلك الحين بآل الأسير. ولا يُعرف سبب وُجُود جدّ آل الأسير على متن سفينةٍ تمخر عباب البحر المُتوسِّط قُرب مالطة، وما إذا كان راكبًا أم جُنديًّا، أم كان مُسافرًا بقصد التجارة أم مُهاجرًا. كما لا يُعرف تاريخ أسره أو فُكاكه منه، علمًا بأنَّ أقدم الوثائق والحُجج الشرعيَّة التي ورد فيها ذكر آل الأسير في صيدا تعود لمطلع القرن الثامن عشر الميلاديّ.أمَّا الشيخ يُوسُف نفسه فشرح اسمه وكنيته وسبب تلقيبه بالأزهري في كتابه «شرح رائد الفرائض»، فيقول: «…والأَسير هُوَ الأَخِيذ، فهُوَ فَعِيل بِمَعنَى مَفعُول، وإنَّمَا لُقِّبَ بِذلِك لِأنَّ الإفرَنج أَسَرُوا جَدِّي أَيَّامَ حَرب مَالطَة من سَفِينَتِه، وَقَد أَقَامَ بِهَا بُرهَةً، ثُمَّ عَادَ لِبَلَدِه حُرًّا طَلِيقًا وَأًخبَرَ بِمَا رَآهُ مِن أَهْلِهَا. وَالأَزهَرِي نِسبَةً لِلأَزهَر، وَهُوَ الجَامِع الذي بَنَاهُ جَوهَر، قَائِد المَلِك المُعِز الذي افتَتَح مِصْرَ، وَإنَّما نُسِبتُ إلَيهِ لأَنَّني قَبَستُ مِن نُورِه، حِينَ جَاوَرتُ فِيهِ…».والده هو «عبد القادر بن مُحمَّد الأسير»، وكان تاجرًا من تُجَّار صيدا، يتَّجرُ بالحُبُوب والحنطة في مخزنه الكائن قُرب جامع البحر جوار ميناء المدينة. وكان معروفًا بصلاحه، حريصًا على الاعتكاف بالمسجد بعد انتهاء عمله اليومي، مُتعبدًا أو مُستمعًا إلى الدُرُوس. أمَّا والدته فهي «نفيسة النقيب». وكان للأسير شقيقان هُما مُحمَّد ومحمود، وشقيقة هي «كاتبة».
حياة الأسير وسيرته
ولادته ونشأته
صيدا، مسقط رأس الأسير، كما بدت في سنة 1864م.
وُلد يُوسُف الأسير في صيدا سنة 1232هـ المُوافقة لسنة 1817م وفق مصادر،
وفي سنة 1230هـ المُوافقة لسنة 1815م وفق مصادر أُخرى. وعندما بلغ السادسة من عُمره أرسله والده إلى كُتَّاب الشيخ إبراهيم العارفي، لتلقِّي عُلُومه الأولى. بقي الأسير في الكُتَّاب ثلاث سنوات تلقَّى خلالها مبادئ القراءة والكتابة، وكان قويُّ الحافظة، فحفظ القُرآن وختمه وهو ابن سبع سنوات. تتلمذ الأسير خلال هذه المرحلة من حياته على يد ثلاثة عُلماءٍ معروفين، فدرس القُرآن على الشيخ إبراهيم العارفي، وأحكام التجويد على الشيخ علي الديربي، ودرس مبادئ العربيَّة على الشيخ مُحمَّد الشرنبالي.وبعد أن نضج عود الأسير، عمل في التجارة مع والده، لكنَّهُ ظلَّ مُتعطشًا للعلم ومُجالسة أهله. ولمَّا لم يكن في صيدا آنذاك مُتسعٌ له، عقد العزم على السفر إلى بلادٍ مُجاورة طلبًا له وسعيًا خلفه.