نعمة اللسان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله.
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فإن الله تعالى جعل لنا هذه الجوارح التي نتعامل بها مع أنفسنا ومع من حولنا وننتفع بها، وبما أن الإنسان مأمور بعبادة الله تعالى كما قال سبحانه: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، فلابدَّ إذًا من تسخيره جوارحه في هذه العبادة، وسيد هذه الجوارح اللسان الذي نتكلم به، وهذا اللسان آيةٌ من آيات الله وهَبه اللهُ لابن آدم يعرب به عما في نفسه، قال سبحانه: ﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾ [الرحمن: 3، 4]، وقال سبحانه: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ﴾ [الروم: 22]، فانظروا في اختلاف الأصوات وكيف تسمع أناسًا كثر يتكلمون في آن واحد فتستطيع أن تميز كلام كل واحد منهم، وانظروا كيف يستطيع بعض فاقدي البصر أن يتعرفوا على المقابل من خلال صوته ولو بعد مدة طويلة، وانظروا كيف جعل الله عز وجل بعض الأصوات جهوري شديد وبعضها رفيع رقيق وبعضها منساب وبعضها متقطع وبعضها سريع وبعضها بطئ، ثم انظروا كيف تميز كلام الإنسان عن كلام الحيوان والطير، وهذا وغيره شيء يسير من آيات الله سبحانه.
وهو أيضًا بابٌ عظيم للجنة، قال صلى الله عليه وسلم: « إنَّ العبدَ ليتكلَّمُ بالكلمةِ من رضوانِ الله ِيرفعُه الله بها درجاتٍ»، وهل انتشر الإسلام إلا بالدعوة إلى الله تعالى؟ وأكثرها بالكلام، وما الذي علَّم المسلمين دينهم إلا اللسان، وما الذي أخشع الباكين عند الوعظ إلا اللسان، وما الذي أوقف الباغين عند حدود الله إلا اللسان، وما الذي صحح تلاوة القرآن الكريم إلا اللسان. بل إن الرجل لا يكون مسلمًا إلا بالشهادتين، ولا تصح للرجل صلاته إلا بالفاتحة، وهما لسانيتان.
وقد يميل بعض الناس لتفضيل الصمت على الكلام، وقد يكون هذا مطلوبًا في بعض الأحيان، ولكن الناظر في النصوص يتبين له تقديم فضل الصمت على الكلام، كقوله صلى الله عليه وسلم: «فليقلْ خيرًا أو ليصمت»، فقدَّم القول على الصمت.
وأخيرًا فإن أهل الباطل يرفعون عقائرهم صباح مساء بالإفساد، فهل يقابل ذلك بالصمت، وكف اللسان ؟!!.
إن الصمت إذا كان فيه فضيلة، فإن الكلام فيه فضائل كثيرة، إذا كان على مراد الله تعالى.
وللسانِ عباداتٌ، منها:
• ذكرُ الله تعالى: وأوّله القرآن الكريم، والنصوص الشرعية كثيرة في فضائل ذكر الله تعالى كقوله سبحانه: ﴿ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 35].
• ومن عبادات اللسان، صدق الكلمة: قال الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]، ووصف الله سبحانه بعض الأنبياء عليهم السلام بقوله: ﴿ وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ﴾ [مريم: 50]، وهم قدوتنا في ذلك، قال الله سبحانه: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90].
• ومن عبادات اللسان: الجهاد: فهو سُبلٌ كثيرة، منها جهاد اللسان، قال صلى الله عليه وسلم: «جاهدُوا المشركينَ بأموالِكم وأنفسِكم وألسنتِكم» رواه أبوداود، وقد كان حسان بن ثابت رضي الله عنه يجاهد المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنال ثناء الله تعالى ورسوله، قال صلى الله عليه وسلم لحسان: «اهجُ المشركينَ وروحُ القدُسِ معَك»، رواه مسلم.
• ومن عبادات اللسان: الشكر بقول الحمد لله: فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من أكل طعامًا ثم قال الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعامَ ورزقَنِيه من غيرِ حولٍ مني ولا قَّوٍة غفر له ما تقدَّم من ذنبِه وما تأخَّر، ومن لبس ثوبًا فقال الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» [أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وحسنه الشيخ الألباني دون قوله: «وما تأخر»].
• ومن عبادات اللسان: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الذي به يكون المسلم مفتاحًا للخير، قال صلى الله عليه وسلم: «الدِّينُ النَّصِيحةُ».
الخطبة الثانية
الحمد لله ﴿ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [غافر: 3]، ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 88]، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مِنْ أفضلِ أيَّامِكم يومَ الجمعةِ فأكثروا علَيَّ من الصلاةِ فيه فإنَّ صلاتَكم معروضةٌ عليَّ»، وقال صلى الله عليه وسلم: «أوْلى النَّاسِ بي يومَ القيامةِ أكثرُهم عليَّ صلاةً».
وبعدُ:
فكما أن للسان عبادة، فله زنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أَبو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إِنَّ اللَّه كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَزِنَا العَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ المَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ»، رواه البخاري ومسلم.
وبئس المرءُ ينعم الله تعالى عليه بصحة البدن وقوة العضلات، أو طلاقة اللسان وحسن الصوت، أو حدة البصر وقوة الملاحظة، أو سرعة الجري وخفة الحركة، ثم يسخِّر كل ذلك في معصية الله عز وجل، قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا ﴾ [إبراهيم: 28]، فبدَل أن يشكروا النعمة يكفرونها، كما قال سبحانه: ﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾ [الواقعة: 82].
أما أن هذه الجوارح ستنقلب عليه شاهدة يوم القيامة، لكونه لم يرعها ويحفظها: ﴿ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [فصلت: 19 - 21].
فمن زنا اللسان: النفاق: ﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ ... ﴾ [المنافقون: 1]، ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ... ﴾ [البقرة: 204].
ومن زنا اللسان: قول ما لا يفعل: ﴿ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2].
ومن زنا اللسان: اتهام الصالحين: «شرارُ عبادِ الله المشاؤون بالنميمةِ المفرِّقون بين الأحبَّةِ الباغون للبرآء العنتَ» أخرجه أحمد.
وَمَا مِنْ كاتبٍ إلا ستبقَى
كتابتُه وإنْ فنِيتْ يدَاه
فلا تَكتبْ بكفِّك غيرَ شيءٍ
يسُرُّك في القيامةِ أنْ تراه
ومن زنا اللسان: السخرية والطعن: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ... ﴾ [الحجرات: 11].
إذا شئتَ أن تحيا سَليمًا مِنَ الأذَى
وحظُّك موفورٌ وعرضُك صَيِّنٌ
لسانُك لا تذكر به عورةَ امرئٍ
فكلُّك عوراتٌ وللناسِ ألسُنٌ
وعينُك إن أبدتْ لك معايبًا
فصُنْها وقلْ يا عينُ للناس أعينُ
ومن زنا اللسان: التشدق: «شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم، الذين يأكلون ألوان الطعام، ويلبسون ألوان الثياب، ويتشدقون في الكلام» البيهقي عن فاطمة بنت الحسين بسند حسن.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|