6 تريليونات دولار حبيسة صناديق النقد مع تأخر خفض الفائدة
يضخ المستثمرون المليارات في صناديق سوق النقد بوتيرة تدريجية ومنتظمة، فيما يكدّس المديرون الماليون في الشركات كميات قياسية من النقود السائلة، وتستوعب السوق عرضاً هائلاً من سندات الخزانة الأمريكية دون أية عوائق.
ولا تزال السيولة النقدية تتمتع بوفرة من الطاقة والقدرة على الاستمرار بالنسبة لفئة من الأصول يستبعدها العديد ممن يتنبؤون بحركة السوق تقريباً منذ بداية العام. أضاف المستثمرون 128 مليار دولار من الأموال إلى صناديق سوق النقد الأمريكية منذ بداية هذا العام، وفق بيانات جمعية صناديق الاستثمار "إنفستمنت كامباني إنستيتيوت" (Investment Company Institute)، بحسب ما ذكرت "بلومبرغ" .
بلغت السيولة النقدية الموجودة تحت أيدي الشركات رقماً قياسياً بوصولها إلى 4.4 تريليون دولار في نهاية الربع الثالث، ومازال في السوق مجالٌ للمزيد بعد طوفان من سندات الخزانة التي تتجاوز قيمتها تريليون دولار منذ منتصف 2023.
يأتي ذلك في ظل تناقض صارخ مع حالة السوق منذ شهرين فقط، عندما كانت الأسئلة الأكثر تداولاً في وول ستريت تتعلق بكيفية إعادة توظيف كل السيولة التي بحوزة المستثمرين ما أن يبدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي في تخفيض أسعار الفائدة وتعاني أكوام النقود السائلة في السوق من ضعف الإقبال عليها.
2024 عام جديد للنقود
غير أن كثيراً من الأمور تغيرت منذ ذلك التاريخ، وكان أحد هذه التغيرات أن المستثمرين تخلوا عن توقعات تيسير السياسة النقدية بسرعة درامية. فكلما استغرق البنك المركزي وقتاً أطول قبل أن يبدأ في تخفيض أسعار الفائدة المعيارية، كلما استمرت قدرة السيولة النقدية في صناديق سوق النقد على تحقيق أرباح بنسبة 4% أو 5% أو أكثر من ذلك، بما يمنع المستثمرين من البحث عن مجالات استثمار أخرى.
أضف إلى ذلك قادة الشركات التنفيذيين الذين يظهرون تأنياً في إنفاق النقود بعد فترة الجائحة، والمودعين الذين يساورهم القلق بشأن أوضاع النظام المصرفي، وجميع المؤشرات التي تُنذر بأن عام 2024 سيكون عاماً آخر للسيولة النقدية.
قال بيتر كرين، رئيس شركة "كرين داتا" (Crane Data) التي تتابع صناديق سوق النقد، إن عام النقود لم يكن طفرة عابرة أو مؤقتة، وعودة حساسية السوق لحركة أسعار الفائدة بشكل عام مازالت في مرحلة الانتشار، بل إن كميات كبيرة من النقود لم تتحرك تأثراً بها أو لم تلتفت إليها بعد.
تجاهلت الأسواق خيار السيولة النقدية زمناً طويلاً خلال معظم السنوات العشرة التي أعقبت الأزمة المالية العالمية عندما أبقى "الاحتياطي الفيدرالي" تكاليف الاقتراض قرب الصفر. غير أن هذه الصورة تغيرت بعد دورة رفع أسعار الفائدة بطريقة مدروسة على مدى ثلاث سنوات، وبعد أن أدت الجائحة إلى تدافع المستثمرين على الملاذات الآمنة.
زيادة الفائدة تدعم طفرة النقود
في عام 2022، شرع الاحتياطي الفيدرالي في تنفيذ سلسلة من زيادة أسعار الفائدة هي الأشد جرأة منذ عقود، دافعاً معدلات الفائدة فوق مستوى 5%، والتفت جميع المستثمرين، من شركات إدارة الأصول وحتى الأفراد، إلى جاذبية صناديق سوق النقد، وسندات الخزانة والأصول الأخرى قصيرة الأجل مقارنة مع الفوائد على الودائع البنكية التي تقترب من الصفر.
نتيجة لذلك، تدفقت الأموال إلى صناديق سوق النقد حتى تجاوزت تريليون دولار في العام الماضي، مسجلة أعلى مستوى من تدفق الأموال خلال عام في سجلات جمعية "إنفستمنت كامباني إنستيتيوت" التي تبدأ من عام 2007. هذه الأموال ساعدت الصناديق النقدية على مواكبة الزيادة في إصدار سندات الخزانة، ولا تزال الفجوة بين إجمالي الأصول في أسواق النقد وإجمالي سندات الخزانة القائمة، رغم انكماشها، تشير إلى استمرار الإقبال على الاستثمار في ديون الحكومة قصيرة الأجل.
تسببت زيادة أسعار الفائدة في ارتفاع العوائد على السندات قصيرة الأجل متجاوزة عوائد الأدوات المالية الأطول أجلاً، فجعلت العائد على سندات الخزانة لأجل ثلاثة أشهر يبلغ 5.37% حالياً، متجاوزاً العائد على سندات الخزانة لأجل 10 سنوات بأكثر من نقطة مئوية كاملة.
في حين أن ما يسمى بانقلاب منحنى العائد ينطوي على إشارة تنذر بأزمة اقتصادية محتملة، فمن غير المرجح أن تتحول بهذه السرعة وجهة السيولة النقدية التي تدر أرباحاً كبيرة في أدوات مالية قصيرة الأجل وفي صناديق نقدية تدفع معدلات مماثلة للمستثمرين.
تغيير اتجاه السياسة النقدية
الآن، مع تلميح صناع السياسة النقدية إلى تغيير الوجهة إلى خفض أسعار الفائدة، يدور النقاش حول استمرار هذه الكمية الهائلة من السيولة النقدية من حيث الكم والمدى الزمني. وسوف يلعب توقيت خفض الفائدة دوراً في ذلك، فبعد الإعلان عن أرقام قوية للتوظيف والتضخم هذا الشهر، قام المستثمرون بخفض توقعاتهم بإجراء تغيير على أسعار الفائدة قبل منتصف العام.
في أواخر العام الماضي، توقع جيفري روزنبرغ من شركة "بلاك روك فايننشال مانجمنت" أن تخرج كمية كبيرة من أصول صناديق أسواق النقد التي تبلغ 6 تريليونات دولار وتتجه إلى استثمارات أخرى مثل الأسهم والائتمان وإلى سندات الخزانة الأطول أجلاً. ومن بين الشركات التي رددت نفس التوقعات شركتا "سيتي غلوبال ويلث" و"يو بي إس أسيت مانجمنت".
بالنسبة للمحللين الاستراتيجيين في بنك "جيه بي مورغان" بقيادة تيريزا هو، فإنه لا يتعرض لمخاطر الخروج من تلك الصناديق سوى 500 مليار دولار تقريباً لأن أكثر الأموال المستثمرة فيها تستخدم في إدارة السيولة النقدية أو لأغراض متعلقة بالسيولة.
في تقرير شهري صدر الأسبوع الماضي، كتب المحلل الاستراتيجي في بنك "باركليز" جوزيف أباتي: "تتمتع السيولة النقدية بجاذبية أعلى نسبياً من حيث الأرباح المتوقعة، عند مقارنة الاستثمار في الأسهم بالاستثمار في النقود، وذلك بعد إجرائه مقارنة بين ربحية السهم المتوقعة على مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" على مدى 12 شهراً مقبلة مع سعر الفائدة على الأرصدة الفيدرالية، وهو أحد مؤشرات العائد على النقود".
على الجانب الآخر، يُنتظر أن تتدفق استثمارات بنحو تريليون دولار في هذا القطاع خلال عام 2024، تضخها شركات لم تحرك بعد أموالاً سائلة بكميات كبيرة، بحسب ديبورا كانينغهام، رئيسة شؤون الاستثمار في أسواق النقد العالمية لدى شركة "فيديريتد هيرميس" (Federated Hermes) لإدارة الاستثمار.
تؤكد على ذلك أرقام جمعية "إنفستمنت كامباني إنستيتيوت" التي تظهر أن المستثمرين الأفراد يمتلكون نحو 80% من إجمالي المبالغ التي تدفقت إلى صناديق سوق النقد، وتصل إلى 1.198 تريليون دولار منذ مارس 2022، فيما تمتلك مؤسسات الاستثمار النسبة الباقية.
استثمار المؤسسات في صناديق النقد
توقعت كانينغهام، أن تبدأ الزيادة في تدفق أموال مؤسسات الاستثمار إذا كان بنك الاحتياطي الفيدرالي قد بلغ ذروة سعر الفائدة أو مستوى الثبات، في ضوء قيام الشركات بالاستعانة بأطراف ثالثة لإدارة السيولة النقدية بهدف تحقيق عائد عليها.
بعض الشركات قامت فعلاً بزيادة الحيازة من أصول صناديق سوق النقد، إذ قامت شركة "ميتا بلاتفورمز"، المالكة لمنصة التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، بزيادة استثماراتها في صناديق النقد إلى 32.9 مليار دولار بنهاية العام الماضي من 29.6 مليار دولار في نهاية سبتمبر، وفقاً لملفات الإفصاح المودعة لدى هيئة الأوراق المالية والبورصات. واستثمرت شركة "أمازون" 39.2 مليار دولار في صناديق النقد بنهاية عام 2023 مقارنة مع 20.4 مليار دولار في الربع الثالث من نفس العام. ورفضت الشركتان التعليق على هذه المعلومات.
قامت شركة "كوالكوم"، أكبر شركة لمعالجات أجهزة الهواتف الذكية من حيث المبيعات في العالم، بزيادة استثماراتها في صناديق سوق النقد في عام 2023، فيما ارتفعت السيولة النقدية وما يعادلها بالشركة إلى 8.13 مليار دولار في 24 ديسمبر من 4.88 مليار دولار في نفس الشهر من عام 2022.
قال أكاش بالكيوالا، رئيس شركة "كوالكوم" للشؤون المالية والتشغيل، في مقابلة، إن رصيد النقدية بالنسبة لنا يتعلق بالمرونة الاستراتيجية. ونرغب في الحفاظ عليه سائلاً وأن نظل عند أدنى مستوى من مستويات المخاطر، ولذلك فإذا نظرت إلى رصيد النقدية عندنا ستجد أن أغلبه مستثمر في صناديق أسواق النقد.
ارتفاع السيولة النقدية لدى الشركات
ارتفع رصيد السيولة النقدية لدى الشركات كنسبة من إجمالي الناتج المحلي إلى 16% في الربع الثالث من العام الماضي، مقابل 12% في مارس 2020، بسبب صدمة السيولة المرتبطة بانتشار فيروس كورونا، بحسب توني كارفانغ، العضو المنتدب في شركة "كارفانغ غروب"، الذي قال إن هذه الزيادة تمثل تريليون دولار إضافية تقوم الشركات بجمعها واكتنازها، ملاحظاً أن الرقم وصل إلى 4.4 تريليون دولار في الربع الثالث من 2023.
أضاف "كارفانغ": "للسيولة النقدية أهمية جوهرية قطعاً بالنسبة للمركز المالي لأي شركة، لكن ذلك ليس حكماً نهائياً، فقد يرى مديرو الشؤون المالية في الشركات في احتفاظها بكل تلك الكمية من السيولة النقدية مبالغة في الموقف المتحفظ مع انحسار أثر جائحة كوفيد في الذاكرة الجماعية".
قال إن تهيئة البيئة التنظيمية بصورة أفضل لعقد الصفقات قد يحفز المؤسسات أيضاً على إنفاق تلك الأموال.
الاستثمار في أدوات قصيرة الأجل
بالنسبة للمستثمرين الذين يسعون إلى الحفاظ على دخولهم، فإن جيروم شنايدر، رئيس التمويل وإدارة المحافظ قصيرة الأجل في شركة "باسيفيك إنفستمنت مانجمنت"، يشجع عملاءه على أن يبدأوا الاستثمار في أدوات مرتبطة بسعر الفائدة، لاسيما سندات الخزانة التي تمتد آجالها من عام إلى عامين.
قال شنايدر: "بمجرد أن نبلغ تلك النقطة التي يقوم عندها الاحتياطي الفيدرالي فعلا بخفض أسعار الفائدة، ربما يكون الوقت قد تأخر كثيراً أمام المستثمرين لمواصلة تحقيق أداء جيد بدخل مرتفع".
حتى مع خفض الفائدة الذي يلوح في الأفق، فإن السيولة النقدية لا تتزحزح عن مكانها، وفقاً لبيتر كرين، الذي يتوقع أن تصل حيازات صناديق سوق النقد إلى 7 تريليونات دولار هذا العام، نظراً لحالة عدم الارتياح تجاه النظام المصرفي والودائع غير المؤمن عليها.
أضاف: "لن يحدث أي انخفاض في حيازات صناديق سوق النقد عن مستوياتها الحالية في عام 2024".