مواقف من حياة الصحابة في الاستجابة لله ولرسوله
الحمد لله، والصلاة والسلامُ على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن خيرةَ الخلق بعد الأنبياء عليهم السلام أصحابُ نبينا عليه الصلاة والسلام، فهم الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه، وجعلهم حمَلة رسالته، ورضي الله عنهم، ورضوا عنه، ووعدهم بجنات النعيم، قال سبحانه: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة 100].
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ مِن بَعْدِهِمْ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهادَتُهُمْ أيْمانَهُمْ، وأَيْمانُهُمْ شَهادَتَهُم))؛ رواه البخاري.
هم الذين صبروا وصابروا وجاهدوا في الله حق جهاده، وبذلوا الغالي والنفيس في خدمة الدين، فلذلك حري بكل مسلم أن يتشبه بهم ويقتفي آثارهم ويأخذ العبرة من مواقفهم.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالكرام فلاحُ
وإن مما أمرنا الله تعالى به الاستجابة لأوامره والانقياد التام لشرعه؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 24].
ومما يدعو للتأمل في حياة الصحابة رضوان الله عليهم، ما نقل عنهم من سرعة استجابتهم لله ولرسوله، دون تردد أو تسويف أو نقاش أو اعتراض، ومن ذلك:
1- ما روى البخاري ومسلم عن أنس قال: كنت ساقي القوم يوم حُرمت الخمر في بيت أبي طلحة، فإذا مناد ينادي قال: فاخرج فانظر، فإذا منادٍ ينادي: ألا إن الخمر قد حُرمت فجرت في سكك المدينة، فقال لي أبو طلحة: اخرج فاهرقها فهرقتها.
وفي رواية أحمد: كنت أسقي فلانًا وفلانًا عند أبي طلحة حتى كاد الشراب يأخذ منهم، فأتى آت من المسلمين، فقال: أما شعرتم أن الخمر قد حرمت؟ فقالوا: يا أنس، اسكب ما بقي في إنائك فوالله ما عادوا فيها.
وعند ابن جرير: بينما أنا أدير الكأس على أبي طلحة وفلان، فسمعت مناديًا ينادي ألا إن الخمر قد حرمت، فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج، حتى أهرقنا الشراب وكسرننا القلال، وتوضأ بعضنا واغتسل بعضنا، وأصبنا من طيب أم سليم، ثم خرجنا إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: ﴿ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ ﴾ [المائدة: 90].
فسبحان الله ما أشد عزائمهم وما أسرع استجابتهم، فشرِب الخمر شيء أدمنوا عليه وورثوه عن آبائهم، واعتادوا عليه في حَلهم وتَرحالهم، وسفرهم وحضرهم، ولا شك أنه من الصعب عليهم تركه، ولكن الإيمان أعظم من كل شيء، وأمر الله يجب أن يقدم على العادات وإن بلغت حد الإدمان.
وبعد هذا الخبر انظر إلى حال كثير من المسلمين اليوم حين يعلم تحريم شيء مما اعتاد عليه يظل يجادل ويعارض، وقد يسلم بتحريمه أو ضرره، ولكنه يؤجل الاستجابة ويسوف، ويقدم عاداته على أمر الله، وعلى سبيل المثال تجد كثيرًا من الذين اعتادوا على شرب الدخان (السجائر) يعلمون خطورتها ويقرون بتحريمها ولكنهم لم يعزموا على تركها.
2- وحينما نزل الأمر بتغيير اتجاه القبل، وبلغ بعضهم الخبر وهم يصلون، تحولوا على الفور إلى جهة الكعبة، ولم ينتظروا حتى يتموا الصلاة، لشدة امتثالهم للأمر، وخوفهم من مخالفته،فعَن عبْدُاللَّهِ ابنُ عُمَرَ رضي الله عنهما قال: (بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّأْمِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ).
وإذا نظرنا إلى صحابة رسولنا صلى الله عليه وسلم، نجد أن هذه الاستجابة السريعة لأمر الله لم تكن في جنس الرجال منهم فحسب، بل كانت نساء الصحابة أيضًا على ذلك الحال من الامتثال والانقياد لهذا الدين العظيم، ومن المواقف التي تبين استجابتهن السريعة لأمر الله تعالى حين نزلت آيات الحجاب.
3- ففي صحيح سنن أبي داود عن أم سلمة قالت: لما نزلت (يدنين عليهن من جلابيبهن)، خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية؛ أي إنهن غطين رؤوسهن ووجوههن طاعة لله ورسوله.
ولنقارن بين هؤلاء الصحابيات وبين كثير من النساء المسلمات اليوم التي لا يرتدين الحجاب الشرعي وهن يعلمنَ حكم الله فيه، بل بعضهنَّ يبالغن في التبرج والسفور وكشف العورات في الأسواق وعلى الطرقات، أو في أماكن العمل والوظائف، أو في وسائل التواصل الاجتماعي، التي يشاهدها القاصي والداني، نسأل الله لهن الهداية.
لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم جماعات وأفراد على درجات عالية من الاستجابة لأمر الله تعالى، وسواء توجه خطاب الأمر أو الترغيب لجميعهم، كما تقدم التمثيل له أو لفرد منهم بعينه، وقد نقل إلينا من المواقف الخاصة ما يدل على ذلك ومنها:
4- ما نقل عن ابن عباس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتما من ذهب في يد رجل، فنزعه فطرحه وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده، فقيل للرجل، بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك انتفع به، قال: لا والله، لا آخذه أبدًا وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ رواه مسلم في صحيحه.
5- ومن ذلك ما جاء عن أبي مسعود البدري قال: "كنتُ أَضرِب غلامًا لي بالسوط، فسمعتُ صوتًا مِن خلفي: ((اعلم أبا مسعود))، فلم أفهم الصوت مِن الغضب، قال: فلما دنا مني إذا هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا هو يقول: ((اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود)) قال: فألقيتُ السَّوط من يدي، فقال: ((اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام))، قال: فقلت: لا أَضرِب مملوكًا بعده أبدًا؛ رواه مسلم.
6- وعن جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- قال: لما استَوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة، قال: ((اجلِسوا))، فسَمِع ذلك ابن مسعود فجلَس على باب المسجد، فرآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال(تعالَ يا عبدالله بنَ مسعود))؛ رواه أبوداود وصححه الألباني.
7- ومن حبهم للاستجابة لأمر الله تعالى ما رواه قتادة: أن بعض المهاجرين قال: لقد طلبتُ عُمري كلَّه هذه الآية، فما أَدركتُها: أن أستأذَن على بعض إخوتي، فيقول لي: ارجع، فأرجع وأنا مُغتبِط، ﴿ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 28]؛ تفسير ابن كثير.
نسأل الله تعالى أن يرزُقنا الاستجابة لأمره ويُحيينا ويُميتنا على سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|