كان العرب وغيرهم يعبدون غير الله تعالى من الأوثان والحجارة، وغير ذلك من الآلهة التي لا تقدم لهم خيرًا، ولا تدفع عنهم شرًّا، وقد حكى الله عز وجل في القرآن الكريم قول المشركين في سبب عبادتهم غير الله تعالى، في أن هذه الآلهة شفعاء لهم عند الله تعالى؛ قال الله تعالى: ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [يونس: 18].
قال أبو رجاء العطاردي [1]: "كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرًا هو أخير منه ألقيناه، وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرًا جمعنا جثوة[2] من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه، ثم طفنا به، فإذا دخل شهر رجب قلنا: منصل الأسنة[3]، فلا ندع رمحًا فيه حديدة، ولا سهمًا فيه حديدة، إلا نزعناه وألقيناه شهر رجب" [4].
فالشرك وعبادة الأصنام كانا أكبر مظهر من مظاهر دين أهل الجاهلية [5].
فكان عالَمًا "متداعيًا قد شارف النهاية، وخلاصة ما يقال فيه أنه عالمٌ فَقَدَ العقيدة كما فَقَدَ النظام؛ إي: إنه فقد أسباب الطمأنينة في الظاهر والباطن" [6].
فكانت الجزيرة العربية قبل أن تشرق شمس الإسلام، وتضيء الدنيا بنورها الساطع، كانت في شر حال، ومظاهر شرهم كثيرة من أبرزها، ضلال العقيدة، فكانوا يعبدون الأصنام، ويتقربون لها، ويذبحون عندها، ويعظِّمونها التعظيم كله، وهي من صنع بشر مثلهم، وأحيانًا تكون من صنع أيديهم، فلما امتن الله تعالى عليهم ببعثة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأصبحوا مسلمين، أصبحوا في خير حال، فقادوا الأمم، وصاروا خير أمة أخرجت للناس.
فجعل الله تعالى رسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في أمة عظيمة، "وما كان الله ليجعل هذه الرسالة العظيمة في غير أمة عظيمة؛ إذ لا ينهض بالجليل من الأعمال الجليلة من الأمم والرجال، ولا يقوم بالعظائم إلا العظماء من الناس" [7].
قال الإمام ابن القيم [8] رحمه الله: "إن أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى: أن يقرأ باسم ربه الذى خلق، وذلك أول نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه، ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ [المدثر: 1، 2]، فنبأه بقوله: ﴿ اقْرَأْ ﴾ [العلق: 3]، وأرسله بـ ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ﴾، ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حولهم من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين"[9].
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأوي إلى غار حراء يناجي فيه ربه، فنزل عليه الوحي وظهر له جبريل عليه السلام، فكان ذلك بداية مرحلة البعثة مدوية في حياته صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك إيذانًا ببدء الاتصال بين السماء والأرض، وغار حراء جاء خبره في السنة المطهرة، وفي أصح كتبها، فعن أُمِّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ»، قَالَ: " فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴾ [العلق: 1 - 3]، فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي»، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ...» [10].
فجوانب الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث كثيرة، منها: فضل عبادة الخفاء بعيدًا عن أعين الخلق، فهي كمال أدب مع الله، وأحرى للإخلاص، وأبلغ في حضور القلب مع غاية التذلل والخشوع لله تعالى، وبكثرة أعمال السر، تظهر البركة، ويعم الخير بين المسلمين، فعن الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَبْءٌ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ، فَلْيَفْعَلْ »[11].
فقوله صلى الله عليه وسلم: (من استطاع)؛ أي قدر إذ هي، والقدرة والقوة إذا أطلقت في حق العبد ألفاظ مترادفة، (أن يكون له خبء)؛ أي شيء مخبوء؛ أي مدَّخر (من عمل صالح فليفعل)؛ أي من قدر منكم أن يمحوَ ذنوبه بفعل الأعمال الصالحة، فليفعل ذلك" [12].
وكان السلف الصالح رضي الله عنهم "يستحبون أن يكون للرجل خبيئة [13] من عمل صالح لا تعلم به زوجته ولا غيرها" [14].
ثم بدأت مرحلة جديدة من مراحل حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي مرحلة الدعوة إلى الله تعالى وتبليغ رسالته، فعن جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ الأَنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الوَحْيِ، قَالَ فِي حَدِيثِهِ: «بَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي، فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَفَرِقْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»، فَدَثَّرُوهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 1 - 5]، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ رضي الله عنه: وَهِيَ الأَوْثَانُ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ يَعْبُدُونَ، قَالَ: « ثُمَّ تَتَابَعَ الوَحْيُ»[15].
فهذه الآيات الكريمات على قصر مقاطعها وقلة كلماتها، كانت بداية الانطلاق لتبليغ دعوة الإسلام, وهي نموذج فريد على إعجاز القرآن في البيان؛ حيث بدأت بالنداء الموحى بالرحمة، ثم أمرت بالقيام من الفراش، وذلك لغاية عظمى وهي الإنذار والتبليغ, وتعظيم أوامر الله عز وجل ونواهيه، وإقامة شريعته.
وقد مرت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد بمرحلتين أساسيتين:
1- المرحلة الأولى: في تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم دعوة التوحيد، سُميت بالدعوة السرية، "أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث سنين من أول نبوته مستخفيًا" [16]، وهي أولى مراحل الدعوة الإسلامية وأهمها، وأبعدها أثرًا, وكانت تمثل مرحلة الإعداد الخاص للجيل الأول في الإسلام؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "وكان علي رضي الله عنه أول من آمن من الناس بعد خديجة رضي الله عنها" [17].
فأُم المؤمنين خديجة رضي الله عنها "أول من أسلم من النساء، وأول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة رضي الله عنه، وأول من أسلم من الغلمان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه كان صغيرًا دون البلوغ على المشهور، وهؤلاء كانوا إذا ذاك أهل البيت، وأول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وإسلامه كان أنفع من إسلام من تقدم ذكرهم إذ كان صدرًا معظمًا، ورئيسًا في قريش مكرَّمًا، وصاحب مال، وداعية إلى الاسلام، وكان محببًا متألفًا يبذل المال في طاعة الله ورسوله" [18].
وعن عمرو بن عبسة السلمي قال: "كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارًا، فقعدت على راحلتي، فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيًا جُرءاء [19] عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له: ما أنت؟ قَالَ: «أَنَا نبي»، فَقُلْتُ: وَمَا نبي؟ قَالَ: «أرسلني اللَّهُ»، فَقُلْتُ: وبأي شيء أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: «أرسلني بِصِلَةِ الأَرْحَامِ وَكَسْرِ الأَوْثَانِ وَأَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ لاَ يُشْرَكُ بِهِ شيء»، قُلْتُ: لَهُ فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: «حُرٌّ وَعَبْدٌ»، قَالَ: وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ، فَقُلْتُ: إِنِّي مُتَّبِعُكَ، قَالَ: «إِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ يَوْمَكَ هَذَا أَلاَ تَرَى حالي وَحَالَ النَّاسِ، وَلَكِنِ ارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ فَإِذَا سَمِعْتَ بي قَدْ ظَهَرْتُ فأتني» [20].
فدعوة النبي صلى الله عليه وسلم السرية يطلق عليها أيضًا الدعوة الفردية، وكانت أول ما استهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته، فبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بأقرب الناس إليه، حتى كانت النواة الأولى للدعوة من السابقين الأولين، ومما ينبغي علي الداعية أن يقتدى بالرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته، فالدعوة تحتاج إلى مسلم يبدأ بأقرب الناس إليه، ويلتزم بتعاليم دينه، قدوة في سلوكه، يعرف حقوقه ويؤدي ما عليه من واجبات؛ حتى تظهر آثار الدعوة على المدعوين في أسرع وقت.
2- المرحلة الثانية: في تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، وسميت بالدعوة الجهرية، ومكث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنوات، "فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين" [21]، وكانت على مستويات ثلاثة:
(أ) المستوى الأولى: إلى عشيرته، قال الله تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، وعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: لَمَّا نَزَلَ قول الله تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾، وَرَهْطَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا فَهَتَفَ يَا صَبَاحَاهْ، فَقَالُوا: مَنْ هَذَا؟ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْه، فقال: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مصدقي، قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا، قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، قَالَ: أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ مَا جَمَعْتَنَا إِلَّا لِهَذَا ثُمَّ قَامَ، فَنَزَلَتْ: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ [المسد: 1] [22].
عشيرتك الأقربين؛ أي: "الأقرب منهم فالأقرب، فإن الاهتمام بشأنهم أهم، ولأن الحجة إذا قامت عليهم تعدَّت إلى غيرهم، وإلا فكانوا علة للأبعدين في الامتناع" [23].
وقد بذل الرسول صلى الله عليه وسلم غاية جهده في سبيل تبليغ رسالة ربه، فدخل الناس "في الإسلام أرسالًا من النساء والرجال، حتى فشا ذكر الإسلام، وتحدث به... ثم إن الله تعالى أمر رسوله أن يصدع بما جاء به، وأن ينادي الناس بأمره" [24].
فمن الواجب علينا أن نقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم في أساليب دعوته، فهو يبشر من يدعوهم بالخير، وهو أيضًا ينذرهم من سوء العقاب، ثم اختياره صلى الله عليه وسلم الوقت المناسب، وكذا اختياره صلى الله عليه وسلم المكان المناسب، لمخاطبة أكبر عدد من الناس في وقت واحد، واختياره صلى الله عليه وسلم الألفاظ التي تثير الانتباه والاهتمام، وكذا اعتماده صلى الله عليه وسلم بما يملك من أخلاق، وقيم، وأهداف نبيلة، وثقة المدعوين في أخلاقه، كل هذه عوامل مهمه تؤثر في قبول الدعوة أو رفضها.
(ب) المستوى الثاني: إلى جميع الناس في مكة، ومن بأجوارها خارج حدودها من عرب وغيرهم؛ قال الله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾ [الشورى: 7].
فأم القرى ومن حولها هي: "مكة ومن حولها من أحياء العرب، ومن سائر طوائف بني آدم من عرب وعجم" [25].
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم "يعرض نفسه على قبائل العرب يدعوهم إلى الله عز وجل، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به"[26].
وفي كل عام يتبع صلى الله عليه وسلم الحجيج "في منازلهم، وفي المواسم بعكاظ ومجنة وذي المجاز[27] يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة، فلا يجد أحدًا ينصره ولا يجيبه، حتى إنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة، ويقول: "يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب، وتذل لكم العجم، وإذا آمنتم كنتم ملوكًا في الجنة" [28].
فالله عز وجل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبدأ دعوته في عشيرته، ثم في مكة المكرمة ومن حولها، فصنع ممن آمن معه مجتمعًا مثاليًّا فريدًا في قيمه، وأخلاقه وعطائه, وإيثاره, وفي وحدة أبنائه, مجتمعًا قائمًا على ركائز من العقيدة الراسخة, وقواعد إيمانية ثابتة, ثم اتسعت دائرة دعوته صلى الله عليه وسلم أكثر إلى أن تشمل الدنيا كلها، فراسل الملوك والزعماء، وهذا من باب التهيئة التدريجية في الدعوة، فالمؤمن مأمور بتبليغ دين الله عز وجل والدعوة إليه، وليكن سببًا في نشره قدر استطاعته، طلبًا لجزيل الثواب من ربه، وأسوة بنبيه.
(ج) المستوى الثالث: إلى الناس كافة على مر الأزمان والعصور؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [الأعراف: 158]، وقال الله تعالى: ﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 19].
فالقرآن الكريم "لم ينزل لإنذار المشركين وحدهم، ثم تنتهي مهمته، ويصبح بعد ذلك مهجورًا، بل إنه نزل لإنذار المشركين العرب وكافة المشركين، ولإنذار الأولين والآخرين، السابقين واللاحقين، فهو نذير لكل من بلغه من الناس إلى يوم الدين" [29].
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِي وَلاَ نَصْرَانِي، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»[30].
فقول النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ أي: "إن كل واحد من هذه الأمة إذا يسمع بي ويتبين له معجزتي، ثم لا يؤمن برسالتي، ولم يصدق في مقالتي، كان من أصحاب النار، سواء الموجود ومن سيوجد" [31].
فمن وجد في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبعد عصره إلى يوم القيامة، فكلهم يجب عليهم الدخول في طاعته، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعش ليبلغ رسالة الإسلام للناس جميعًا، وإنما بلغ من حوله من العرب، وأرسل الكتب إلى ملوك الأرض حوله يدعوهم للإسلام، ثم قام الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم من بعدهم بهذا الأمر؛ اقتداءً به صلى الله عليه وسلم، ودخولًا؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108].
فدلت الآية على أن "كل متَّبِع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حق عليه أن يَقتدي به في الدعوة إلى الله تعالى، والإيمان به وتوحيده، والعمل بما شرعه لعباده" [32].
وجملة القول في الاقتداء في الدعوة:
إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة للأمة ومربيها وداعيها وهاديها إلى كل خير وفضيلة، وما من خير إلا دل الأمة عليه، وما من شر إلا حذَّرها منه، والأمة مكلفه بأن تقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم، وتكمل ما بدأه صلى الله عليه وسلم، وذلك بحمل رسالته، وتبليغها التبليغ الصحيح لجميع البشر، وأن تصل بالدعوة إلى كل بقاع الدنيا قدر المستطاع، وعليها أن تسخر التقدم العلمي والتكنولوجي من وسائل اتصال، والإلمام بخصائص، وثقافة، ولغة المجتمع التي تدعوه، حتى تستطيع أن تؤثر فيه، وتحتاج الدعوة إلى إخلاص، فالداعية المخلص يهيئ الله تعالى له التوفيق والنجاح أينما وجد.