الابتلاء نعمة ورفعة
الخطبة الأولى
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلاَّ الله وحدهُ لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدهُ ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، فجزاه الله خير ما جزى نبيًّا عن أمته وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا، فاتقوا الله: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].
إخوتي في الله، جرت العادة في هذه الحياة أن الإنسان إذا رُشِّح لمنصب أو أراد منزلة، أو مكانة، فإنه يخضع لشيء من الاختبارات والامتحانات، والتأكد من أنه صالح لذلك المكان، فالطالب إذا تخرج من المرحلة الثانوية مثلًا، فإنه بحاجة إلى اختبارات في القياس والقدرات، حتى يتهيأَ للجامعة، الموظف في عمله إذا أراد أن يُرقَّى، فإنه يخضع إلى جملة من الاختبارات حتى يُرقَّى، وهكذا هي مناصب هذه الدنيا، ويبدو أن الترقي في درجات الإيمان يسير على نفس النهج مع فارق عظيم وكبير، فإن الترقي في المنازل في الإيمان بالله يُخضِع الإنسان لاختبارات وابتلاءات في هذه الدنيا، وكلما كانت المنزلة أعظم كان الاختبار أكبر؛ تمحيصًا واختبارًا، وتأكيدَ أن هذا الإنسان يستحق هذه المنزلة مع الله: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 141]،ولكن هذه الاختبارات صعبة في الطريق إلى الله، قال ابن القيم رحمه الله وهو يصف حال هذا الطريق، طريق الاختبارات والابتلاءات وصولًا إلى المنازل العليا مع الله وهو يصف حال الأنبياء قال: ((الطريق طريقٌ تعِب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمي في النار الخليل ....))، ومضى يعدد ابتلاءات الأنبياء عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم، هنا رجع الإنسان إلى كتاب الله؛ لأننا ندرك أنه الكتاب الشامل الذي يصلح هذه الأمة، وهناك كنت أستقرأ هذه الابتلاءات وتلك الاختبارات، فوجدنا أمرًا عظيمًا، ثمة قواعد واضحة فيالابتلاءوالاختبار في التعامل مع الله، ولا يمكن للإنسان أن يخرج عنها، خذوا هذه القواعد السريعة في الابتلاءات التي يبتلي الله بها العبد؛ حتى ندرك جميعًا أن كل واحد منا قد يبتلى بأمر من ابتلاءات هذه الدنيا، من قواعد الابتلاءات مع الله:
أولًا: تكرارالابتلاءوراء الابتلاء،فإذا ما نجح الإنسان في الابتلاء الأول والاختبار الأول، خضع لابتلاء آخر، حتى يرى هل يستحق المنزلة التي ينتقل إليها أو لا، اقرأوا ذلك جيدًا في قصة سليمان عليه السلام لما حبب الله إلى قلبه الخيل، ثم شُغل عن الصلاة، فكان الاختبار واضحًا أيهما أقرب إلى قلبه الخيل أم الله؟ فكان قد ضحَّى بالخيل، وبعدها مباشرة، نجح في هذا الاختبار، فجاء الاختبار الثاني، ألقى الله على كرسيه جسدًا، قيل إن الجسد شيطان صار على كرسيه يأمر وينهى مدةً، ابتلاءً واختبارًا، ثم نجح سليمان وأناب، فوهب الله له ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده.
القضية نفسها عند يوسف عليه السلام، ابتلاه الله بامرأة العزيز، فلما صبر عنها لله، ابتلاه الله بعدها مباشرة بالسجن، فلما صبر في السجن مُكِّنَ له خزائن الأرض.
القضية ذاتها عند نوح عليه السلام، استهزأ به قومه فصبر فنجح في الاختبار الأول، انتهى الاختبار الأول، فجاء الاختبار الثاني في ابنه أقرب الناس إلى قلبه، ليكون بعيدًا عنه، فصبر مرة أخرى، فكان الفلاح والنجاح، وأما أيوب فابتُليَ في مرضه وابتُليَ في زوجه، وهكذا، إنه التكرار.
ثانيًا: مدة الاختبار والابتلاء يقدرها الله بحكمته،يطول الابتلاء أو يقصر الابتلاء للمنزلة التي يُختار العبد لها، وكيف يجتازها؟ أحيانًا يطول الابتلاء جدًّا، فارق يعقوب عليه السلام ابنه يوسف ثلاثين عامًا يبكي عليه، ويوسف في السجن بضع سنين، ويونس في بطن الحوت إلى أربعين يومًا، وقيل: ثلاثة، وقيل: سبعة، وقيل عشرة، وعائشة اتُّهمت في عرضها رضي الله عنها، وصاحب ذلك تأخر نزول الوحي، وهكذا، المدة مرتبطة بالمنزلة التي يصل الإنسان إليها.
ثالثًا: يتناسب الابتلاء مع منازل الأقوياء مع الله جل في علاه،لما كان إبراهيم عليه السلام صاحب الخُلَّة خليل الرحمن، ابتُليَ أقرب الناس إليه أن يذبح إسماعيل، ولما كانت ذات المنزلة وأعلى منها منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، ابتُليَ في أقرب الناس إليه عائشة، فتُكلِّم في عرضها، فكلما عظُمت المنزلة عظُم البلاء.
رابعًا: نجد في القرآن الكريم تنوع الابتلاءات،حتى ندرك أن ليس كل الابتلاءات شر، فبعض الخير ابتلاء(وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 35]، فبلاء بِشَر وآخر بخير.
مرض أيوب ظاهره الشر، فِقدان لوط لزوجته على الكفر ظاهره الشر، وكذلك نوح، ابتلاء سليمان بالملك العظيم، فهذا يظهر منه الخير، ومع ذلك كان ابتلاءً عظيمًا، والأقرع والأبرص والأعمى الذين ورد فيهم الحديث كان ابتلاءً بخيروَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).
أخيرًا، إنَّ الله يؤجل العقوبة أحيانًا؛ليكشف حقيقة الإنسان، يؤجل العقوبة على الأخطاء ليكشف حقيقة الإنسانوَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) [فاطر: 45]، (إنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حتَّى إذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ...)؛ رواه البخاري.
تلك قواعد الاختبار والابتلاء مع الله جل في علاه.
أسأل الله أن يغفر ذنوبنا، وأن يستر عيوبنا، وأن يتولَّى أمورنا، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإخوتي في الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، إذا كنا في هذه الدنيا نخضع لهذه الابتلاءات وندور في فلكها، فإن الواحد منا يأمل أن يجتاز من منزلة إلى أخرى في التعامل مع الله، وحتى نرتقي في هذه المنازل خذوا هذه الوصايا:
أولها:منزلتك عند الله مرتبطة بحجم البلاء، فكلما زادت المنزلة، زاد البلاء فإذا زاد بلاؤك فاعلم أنها زيادة لك في المنزلة عند الله؛ قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الرجلَ ليكونُ له عند اللهِ المنزلةَ، فما يبلُغُها بعملٍ، فما يزالُ اللهُ يبتليهِ بما يكرَهُ حتى يُبلِغُه إياها"؛صححه الألباني.
أعماله لا ترقِّيه إلى تلك المنزلة، فيبتليه الله بمرض بفقر بمصيبة، حتى يرفعه إلى تلك المنزلة.
ثانيًا:أي ابتلاء ينزل على المؤمن في هذه الدنيا، هو عنوان حب الله؛ قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ عِظمَ الجزاءِ مع عِظمِ البلاءِ، وإنَّ اللهَ إذا أحبَّ قومًا ابتَلاهم، فمَن رَضي فله الرِّضَا، ومَن سخِط فله السَّخطُ"؛ حسنه الألباني.
ثالثًا:كل بلاء في هذه الدنيا هو استكمال طهارة من ذنوب وخطايا وسيئات، شعر بها الإنسان أو لم يشعر؛ قال صلى الله عليه وسلم: "ما يَزالُ البلاءُ بالمؤمِنِ والمؤمنةِ، في نفسِهِ وولدِهِ ومالِهِ، حتى يلْقَى اللهَ وما عليْهِ خطيئةٌ"؛ صححه الألباني؛ هذه كفارات يرفعك الله بها عنده جل في علاه.
رابعًا:بلاء هذه الدنيا تخفيف من بلاء الآخرة، فلو أنَّ الإنسان أصيب بمرض، أو ادلهمَّت عليه مصيبة، أو اشتد عليه كرب في الدنيا، فليحمد الله، فإنما هو تخفيف مما يكون في الآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: "يَودُّ أهلُ العافيةِ يومَ القيامةِ - أهل العافية هم الذين كانوا في الدنيا قليلي الابتلاءات - يَودُّ أهلُ العافيةِ يومَ القيامةِ، حين يُعطى أهلُ البلاءِ الثوابَ، لو أنَّ جلودَهم كانت قُرِضَتْ بالمقاريضِ"؛ حسنه الألباني، لِما يرون ثواب الله لأولئك والمنازل العظمى، يتمنى الواحد أن يُعاد إلى الدنيا؛ ليُبتلى مثل بلائهم، وأكثر من شدة ما يرون من عطاء الله لهم.
أخيرًا،إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم علَّمنا أن نرفع أكفَّ الضراعة إلى الله جل في علاه وندعو بأن يلزم قلوبنا اليقين: "ومِنَ اليقينِ ما تُهَوِّنُ بِهِ علَيْنَا مصائِبَ الدُّنيا"؛ حسنه الألباني، وهو الذي علَّمنا أن نقول: "اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ الرِّضا بعدَ القضاءِ .."؛ صححه الألباني.
يا هذا، لا تطلب أن ينزل البلاء عليك، لكن إذا نزل البلاء عليك، فاصبر له، واعلم أنَّ كل بلاء قربك إلى الله هونعمةورزق ساقه الله إليك، وكل بلاء بعَّدك من الله إنما كان عقوبة عليك، والملتقى عند الله جل في علاه، فلا والله تنعم حياة والمرء بعيد عن الله، ولو كشف الله لك الغيب في ارتفاع منازل أقوام نزل عليهم البلاء، فصبروا، لربما تمنى كل واحد أن يدركَه من البلاء ما تُرفع به المنازل عند الله فاطر الأرض والسماء.
أسأل الله العلي العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يخفف البلاء عن كل من نزل عليه البلاء، ألا وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، فإنَّ الله أمركم بذلك في كتابه قائلًاإِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|