تفسير ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ )
..
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾
قال الله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ * أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾ [سورة سبأ: 7 -9].
أولًا: سبب نزولها:
قال المفسرون: قد كان المشركون هيؤوا ما يكون جوابًا للذين يرِدون عليهم في الموسم من قبائل العرب يتساءلون عن خبر هذا الذي ظهر فيهم يدَّعي أنه رسول من الله إلى الناس، وعن الوحي الذي يبلغه عن الله كما ورد في خبر الوليد بن المغيرة؛ إذ قال لقريش: إنه قد حضر هذا الموسم، وأن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيًا واحدًا، ولا تختلفوا، فيكذب بعضكم بعضًا، ويرد قولكم بعضه بعضًا، فقالوا: فأنت يا أبا عبدشمس، فقل وأقم لنا رأيًا نقول به، قال: بل أنتم قولوا أسمع، قالوا: نقول كاهن؟ قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا بسجعه، قالوا فنقول مجنون؟ قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخلجه ولا وسوسته، قالوا فنقول شاعر؟ قال: لقد عرفنا الشعر كله فما هو بالشعر، فقالوا: فنقول ساحر؟ قال: ما هو بنفثه ولا عقده، قالوا: فما نقول يا أبا عبدشمس؟ قال: إن أقرب القول فيه أن تقولوا: ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته.
قال العلماء: فلعل المشركين كانوا يستقبلون الواردين على مكة بهاته المقالة: ﴿ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [سبأ: 7]؛ طمعًا منهم بأنها تصرف الناس عن النظر في الدعوة تلبسًا باستحالة هذا الخلق الجديد، ويرجح ذلك إتمامها بالاستفهام أفترى على الله كذبا أم به جنة؟.
ثانيًا: تضمن سبب النزول استهزاء المشركين بسيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي أرسله الله -تعالى- لهدايتهم. حيث أنكروا البعث بعد الموت وهزؤوا منه صلّى الله عليه وسلم لأنه أخبرهم بالجنة والنار وأمور الآخرة، ووصل بهم الحال إلى أنهم أصبحوا يتحدثون عنه وكأنهم لا يعرفونه فيقولون للغرباء عن مكة: ﴿ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ ﴾، وكانوا يقصدون بذلك السخرية، فأخرجوه مخرج التحكي ببعض الأحاجي التي يتحاجى بها للضحك والتلهي، وهذا كله من الأذى الشديد له صلى الله عليه وسلم.
ثالثًا: دافع الله تعالى عن مصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم وردَّ على المشركين إنكارهم للبعث، ثم توعدهم على هذا الاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي ما دعاهم إلا لنيل السعادة في الدنيا والآخرة، فأنزل سبحانه تلك الآيات، وإليك بيان ما فيها من العلم الغزير والدفاع عن البشير النذير صلى الله عليه وسلم:
الآية الأولى: قوله تعالى: ﴿ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾.
1- حكى الله عن المشركين قولهم: (هل ندلكم على رجل)، المخاطب غير مذكور؛ لأن المقصود في الآية الاعتبار بشناعة القول ولا غرض يتعلق بالمقول لهم، فيجوز أن يكون قولهم هذا تقاولًا بينهم، أو يقوله بعضهم لبعض، أو يقول كبراؤهم لعامتهم، ويجوز أن يكون قول كفار مكة للواردين عليهم في الموسم، وهذا الذي يؤذن به فعل (ندلكم) من أنه خطاب لمن لم يبلغهم قول النبي صلى الله عليه وسلم. والاستفهام المراد منه التعجب: أي هل ندلكم على أعجوبة من رجل ينبئكم بهذا النبأ المحال، والمعنى: تسمعون منه ما سمعناه منه، فتعرفوا عذرنا في مناصبته العداء.
2- ثم إن كان التقاول بين المشركين بعضهم لبعض، فالتعبير عن الرسول صلى الله عليه وسلم بـ(رجل) منكر مع كونه معروفًا بينهم، وعند أهل بلدهم، قصدوا من تنكيره أنه لا يعرف تجاهلًا منهم؛ قال السكاكي: كأن لم يكونوا يعرفون منه إلا أنه رجل ما.
3- ومعنى قولهم: ﴿ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ هل نرشدكم إلى رجل ينبئكم؛ أي يقول لكم: إنكم تبعثون بعد البلى في القبور، وهذا صادر عن فرط إنكارهم؛ أي: هل تريدون أن ندلكم على من هذه صفته؛ أي: وليس من صفته أنه نبي، بل هو إما كاذب أو غير عاقل -وحاشاه عليه الصلاة والسلام-، والإنباء: الإخبار عن أمر عظيم، وعظمة هذا القول عندهم عظمة إقدام قائله على ادعاء وقوع ما يرونه محال الوقوع.
4- وجملة ﴿ إنكم لفي خلق جديد ﴾: الخلق الجديد: الحديث العهد بالوجود؛ أي: في خلق غير الخلق الأول الذي أبلاه الزمان، فجديد فعيل من جد بمعنى قطع، فأصل معنى جديد مقطوع، وأصله وصف للثوب الذي ينسجه الناسج، فإذا أتمه قطعه من المنوال.
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ﴾ [سبأ: 8]، وإليك بيانها:
1- قوله تعالى: ﴿ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ﴾؛ أي جعلوا حال الرسول صلى الله عليه وسلم دائرًا بين الكذب والجنون، والافتراء: الاختلاق وإيجاد خبر لا مخبر له.
2- قوله تعالى: ﴿ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ﴾ في هذا الجملة قد رد الله عليهم استدلالهم بما أشار إلى أنهم ضالون أو مضلون، وواهمون أو موهمون، فأبطل قولهم بحذافيره بحرف الإضراب (بل)، ثم بجملة (الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد)، فقابل سبحانه ما وصفوا به الرسول صلى الله عليه وسلم بوصفين: أنهم في العذاب وذلك مقابل قولهم: (أفترى على الله كذبًا)؛ لأن الذي يكذب على الله يسلط الله عليه عذابه، وأنهم في الضلال البعيد، وذلك مقابل قولهم: (به جنة)، ولم يقل لهم: بل أنتم في العذاب والضلال بل قال الذين لا يؤمنون بالآخرة والحكمة من ذلك إدماجًا لتهديدهم. والضلال: خطأ الطريق الموصل إلى المقصود، وقوله: (في العذاب) إدماج يصف به حالهم في الآخرة مع وصف حالهم في الدنيا.
|
|
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|