في ظلال حديث: احفظ الله يحفظك (6)
لا زلنا بصدد التأمل في بعض دلالات حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: ((احفظ الله يحفظك))؛ حيث يقتضي حفظنا لربنا عز وجل حفظ كثير من الآداب الشرعية.
عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ((استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: يا رسول الله، إنا لنستحيي والحمد لله، قال: ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة، ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك، فقد استحيا من الله حق الحياء))؛ صحيح سنن الترمذي.
فحفظ الله تعالى بتحقيق الاستحياء، لا يتم بمجرد ألفاظ الحمد والثناء حتى يعقبهما العمل الصالح؛ لأن الحياء في حقيقة أمره هو الدين كله، وهو الخير كله؛ وقد سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ((يا رسول الله، الحياء من الدين؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل هو الدين كله))؛ صحيح الترغيب.
ذلك أن الحياء خَصلة تحمل العبد على الكف عن ركوب الرذائل، وارتكاب القبائح، واجتراح الموبقات، وتدفعه إلى السمو بالأخلاق إلى معارج الفضائل، وسامي المنازل؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((الحياء خير كله، أو قال: الحياء كله خير))؛ مسلم.
بل إن الإيمان يضمحل وينمحق وقد يغيب إذا غاب الحياء؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((الحياء والإيمان قُرنا جميعًا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر))؛ صحيح الجامع، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي، فاصنع ما شئت))؛ البخاري.
فمن أراد أن يحفظه ربه، فليتزين بثوب الحياء، وليجعله رداء جمال، وسربال طهارة؛ قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((ما كان الفحش في شيء قط إلا شانه، ولا كان الحياء في شيء قط إلا زانه))؛ صحيح سنن ابن ماجة.
فكان توقير الله عز وجل وإجلاله كامنًا في الاستحياء منه حق الحياء، وهو ما لا يتم إلا بأمور، ذكرها حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، نقتصر اليوم على أحدها، وهو: ((حفظ الرأس وما وعى)).
ولا شك أن الرأس من أشرف الأعضاء؛ لأنه وعاء لأشرف الحواس: السمع، والبصر، واللسان، التي ما تفضَّل بها علينا الباري جل شأنه إلا لتحقيق الحياء المطلوب؛ قال تعالى: ﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78]، وهي ناطقة يوم القيامة بكل أعمالك، سواء أكانت أعمال خير، أم أعمال شر؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36].
وحفظ هذه الجوارح سبيل لإحراز حفظ الله عز وجل؛ قال تعالى في الحديث القدسي: ((وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها))؛ البخاري.
فكان حفظ الجوارح من أعظم ما يتقرب به العبد إلى ربه؛ قال ابن رجب رحمه الله: "كفُّ الجوارح عن المحرمات أفضل من التطوع بالحج وغيره".
فالذي لا يحفظ الرأس وما وعى يطلق العنان لهذه الجوارح تعُبُّ من الموبقات ما تشتهي، وتستمرئ من اللذات والشهوات ولا تنتهي.
كان يحيى بن معاذ رحمه الله يقول: "من أرضى الجوارح في اللذات، فقد غرس لنفسه شجر الندامات".
يا غاديًا في غفلة ورائحا
إلى متى تستحسن القبائحا؟
وكم إلى كم لا تخاف موقفًا
يستنطق الله به الجوارحا؟
ومن هذه الندامات إرسال البصر فيما حرم الله؛ من تتبع العورات، والنظر إلى الصور الساقطة، والأفلام والمسلسلات الغرامية الرخيصة.
قال القرطبي رحمه الله: "البصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وأعمر طرق الحواس إليه، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته، ووجب التحذير منه، وغضه واجب عن جميع المحرمات، وكل ما يخشى الفتنة من أجله".
فعلى المسلم المستحيي من الله أن يكف بصره عن المحرمات، وأن يحجزه عن الموبقات، فلا يتتبع مفاتن النساء العاريات، ولا يترصد أماكن الشبهات؛ كالشواطئ، والمسابح، وبعض المتنزهات التي لا يتورع أصحابها عن انتهاك حرمات الله.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "إذا مرت بك امرأة، فغمض عينيك حتى تجاوزك".
وقال سعيد بن أبي الحسن رحمه الله: "قلت للحسن: إن نساء الأعاجم يكشفن رؤوسهن وصدورهن، قال: اصرف بصرك عنهن؛ يقول الله تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ﴾ [النور: 30]"؛ رواه البخاري، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((زنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق...))؛ متفق عليه.
ولا يظنَّنَّ ظانٌّ أن الله يخفى عليه من حيل ابن آدم شيء وهو القائل: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غافر: 19]؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "هو الرجل يكون جالسًا مع القوم، فتمر المرأة فيسارقها النظر إليها"، وقال أيضًا: "هو الرجل ينظر إلى المرأة، فإذا نظر إليه أصحابه غضَّ بصره، فإذا رأى منهم غفلة تدسس بالنظر، فإذا نظر إليه أصحابه غض بصره، وقد علم عز وجل منه أنه يود لو نظر إلى عورتها".
ليس الشجاع الذي يحمي مطيته
يوم النزال ونار الحرب تشتعلُ
لكن فتًى غضَّ طرفًا أو ثنى بصرًا
عن الحرام فذاك الفارس البطلُ
ومما وعاه الرأس مما يجب حفظه: هذا السمع الذي استأمننا الله عليه، والذي تكمن خطورته في ارتباطه الوثيق بالقلب؛ فقد يستقبل السمع من المحرمات ما يفسد هذا القلب؛ كسماع الكلام البذيء، وألفاظ التغنج والميوعة كما في بعض الأغاني الوضيعة، وسماع ألفاظ السب والقدح في كتاب الله أو في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ والله تعالى: ﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ﴾ [النساء: 140].
ومثل السمع اللسان، تلك العضلة الخطيرة التي قد توبق صاحبها فتودعه في النار إن لم يحسن استعمالها في الحق، ويلهج بها في السداد؛ قال تعالى: ﴿ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 70]، وقال تعالى: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83]، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أكثر خطايا ابن آدم في لسانه))؛ صحيح الجامع، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول للسانه: "ويحك، قل خيرًا تغنم، وإلا فاعلم أنك ستندم"، وقال أحد الصالحين: "إذا استمرأ اللسان المعاصي، أصبح مثل الطيور الجارحة يعيش على اللحم والدم، ولا يرتاح إلا باقتناص الفريسة"، ورحم الله الإمام الشافعي إذ يقول:
إذا شئت أن تحيا سليمًا من الأذى
ودينك موفورٌ وعرضك صيِّنُ
فلا ينطقن منك اللسان بسوأة
فكلُّك سوءات وللناس أعينُ
وعينك إن أبدت إليك معايبًا
فصنها وقل: يا عينُ للناس أعينُ
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى
ودافع ولكن بالتي هي أحسنُ
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|