حديث: "ورأيت في النار..."
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُالله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأزواجه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الزمر: 62، 63].
تأمَّل في الوجود بعين فكرٍ
ترى الدنيا الدنيَّة كالخيالِ
ومن فيها جميعًا سوف يفنى
ويبقى وجه ربك ذي الجلالِ
خطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبةً بعد كسوف الشمس، فرأى الجنة والنار رأيَ العين، وحذَّر من أمور هي من أسباب هلاك الأمم ودخول النار.
أولها الجرأة بانتهاك محارم الله؛ فقال: ((يا أمة محمد، إنه ليس أحد أغْير من الله عز وجل أن يزنيَ عبده أو أمَتُه)).
إذا استهان الناس بجريمة الزنا خربت الديار، واختلطت الأنساب، واستحق أهلها العذاب، وحلَّت الأوبئة والأوجاع والأمراض التي لم تكن في أسلافهم.
أخرج البخاري في صحيحه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه، قال: قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة: ((أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، فقالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما، فأتينا على مثل التَّنُّور، فإذا فيه لغط وأصوات، فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضَوْضوا، قلت لهما: ما هؤلاء؟ قالا: هؤلاء الزناة والزواني)).
هذه هي نهاية وجائزة اللعب في الأعراض والمحرمات، يحسبها الجاهلان تنتهي عند تراضي الطرفان، أو عدم علم الوالدين، ونسُوا أن نهايتها عذاب شديد وعقاب أليم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾ [النور: 19]، هذه مجرد المحبة، أما من يفعلها ويرتكبها فجزاؤه: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 68 - 70].
وما حُرِّم شيء إلا وجعل الله منه عوضًا؛ ﴿ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ﴾ [النساء: 3].
و((إذا أتاكم من ترضَون خُلُقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)).
والصنف الآخر ممن رآه عليه الصلاة والسلام يُعذَّب في نار جهنم؛ ذاكم هو من يأكل أموال الناس سرقةً واختلاسًا، أو حيلةً ونصبًا، أو ظلمًا وجورًا.
قال عليه الصلاة والسلام(ورأيت في النار صاحب الْمِحْجَنِ يجر قصبه في النار، كان يسرق الحاج بمحجنه، فإن فطن له قال: إنما تعلق بمحجني، وإن غفل عنه ذهب به)).
وصنف ثالث أضلَّ الناس بغير علم، وسعى لتغيير دين الناس وعقائدهم وأخلاقهم، وبدَّل فِطَرَهم التي فَطَرهم الله عليها، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم يجر أمعائه في جهنم؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((ورأيت عمرو بن عامر بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار – أي: أمعائه - وكان أول من غيَّر دين إبراهيم)).
فيا ويل من أحيا البدع والسنن السيئة، وأشاع المنكرات بين المسلمين.
قال عليه الصلاة والسلام في خطبة الكسوف: ((ورأيت في النار امرأة تُعذَّب في هِرَّة لها، ربطتها فلم تطعمها، ولم تَدَعْها تأكل من خشاش الأرض)).
هذا فيمن ظلم البهائم وأجاعها، فكيف بمن ظلم الناس في أرزاقهم، ومعاشهم، وحبس قوتهم بتأخير رواتبهم أو جحدها؟
تلكم هي عيِّنات رآها رسولنا صلى الله عليه وسلم رأي العين في النار، وخشِيَ علينا أن نغشاها فتقحمنا النار.
أعاذنا الله وإياكم ووالدينا من النار.
وأستغفر الله العظيم لي ولكم وللمسلمين والمسلمات، فاستغفروه وتوبوا إليه واتقوه، إن الله هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوَّى، وقدَّر فهدى، وصلى الله على نبيه ورسوله المصطفى وآله ومن اجتبى؛ أما بعد:
الحضارة والانفتاح لا تحل حرامًا، ولا تخفف عذابًا، ولو اجتمع أهل الأرض على أن يجعلوا المنكر معروفًا لا يصيره معروفًا، وما نحن على الله بالكرامة حتى يغير دينه أو يبدل شريعته من أجل أهوائنا.
فظهر الزنا ولطف اسمه، وشُرب الخمر وغُيِّر لفظه، يسمونها بغير اسمها: ((إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم، ويثبت الجهل، ويُشرب الخمر، ويظهر الزنا))؛ [متفق عليه].
والله عز وجل هو الحكيم الخبير، وهو اللطيف الرحيم، شرع أحكامًا وحدَّ حدودًا، وهو العليم بمصالح العباد والبلاد، ولو ترك الناس يعملون كما تهوى أنفسهم، لأصبحوا كالأنعام، بل أضل، لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها.
صمٌّ ولو سمعوا بكم ولو نطقوا
عُمْيٌ ولو نظروا بُهتٌ ولو شهدوا
كأنهم إذ ترى خشب مسندة
وتحسب الركب أيقاظًا وما رقدوا
﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].
اللهم أيقظ قلوبنا بالإيمان، ونوِّر بصائرنا بالعلم والقرآن، وجنِّبنا الفتن والمنكرات والآثام.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|