أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين رضي الله عنها وعن أبيها
إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِي لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ.
عباد الله، إنَّ من عظيم ما يلين القلب، ويزيد الإيمان، ويقوِّي العزائم، ويشحذ الهِمَم سِيَرُ الصالحين من عباد الله، ولا سيَّما مَنْ صَحبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وشاهدوا شخصَه الكريم، وسمعوا كلامَه، واستجابوا لدعوته، واقتدوا بهديه، وأيقنوا بموعود الله تعالى على لسانه، ولم يقتصر ذلك على الرجال من أصحابه؛ بل من النساء الصحابيات من الصالحات القانتات اللاتي ضربن أروع مثال للمرأة المسلمة الصالحة، وفي مقدمتهن الصحابية الجليلة التي أبوها صحابي، وزوجها صحابي، وأختها صحابية، وهي السيدة عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأخوها صحابي، وجدُّها صحابي، وابنها صحابي:
هي المرأة الصالحة القانتة أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها وعن أبيها وعن جدِّها.
نشأت في بيت أبيها أبي بكر خير هذه الأُمَّة بعد النبي، وأسلمت بعد أن أسلم سبعةَ عشرَ صحابيًّا، فهي من السابقات إلى الإسلام، وهاجرت مع زوجِها الصحابي الجليل الزبير بن العوَّام أحد المبشَّرين بالجَنَّة.
أذِنَ الله عز وجل لنبيِّه صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إلى المدينة، وقد اصطحبه أبو بكر رضي الله عنه، وقد تخفيا في غار ثور، فكانت أسماء رضي الله عنها تحمل الطعام والشراب، وتأتي بأخبار مكة لهما.
وفي مرة أخذت معها ما يكفيهما من الزاد وأرادت ربطه، فلم تجد حبلًا، حتى شقت نطاقها شِقَّينِ (والنطاق ما تشدُّ به المرأة وسطها)، وعلقت الزاد بشق منهما واكتفت بالشق الآخر، فلُقِّبت بذات النطاقين.
ولما حضر فرعون هذه الأُمَّة أبو جهل لبيت أبي بكر رضي الله عنه يريد معرفة وجهة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، فسألها، فلم تُجِبْه فلَطَمَ خَدَّها لَطْمةً أطارت قُرْطَها، فما وهنت وما أقرَّتْ.
ولها فضل جهاد ضد الروم في معركة اليرموك مع زوجها الزبير وابنها عبدالله بن الزبير رضي الله عنهم أجمعين.
وكانت رضي الله عنها نِعْم الزوجة الصالحة الصابرة القانتة الزاهدة المُجاهِدة، تغذَّى عقلُها على الإيمان، ونشأ لسانُها على الصِّدْق والحِكْمة، تملك الألباب ببيانها، وتقنع مُحدِّثَها برأيها الصائب.
رَوَتْ عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديثَ كثيرةً؛ حيث أخرج لها الشيخانِ البخاري ومسلم ستة وخمسين حديثًا، وقد كانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها نِعْمَ الأُمُّ، ربَّتْ أبناءها على الإيمان والإقدام، وعلى الجهاد في سبيل الله، حتى ملك ابنها عبدالله الحجاز واليمن ومصر سبع سنوات حتى اقتحم عليه الحَجَّاج بن يوسف الثقافي، فدخل مكَّة سنة 73 للهجرة، ولم يكن أمام عبدالله إلا الموت أو الاستسلام، فدخل على أُمِّه أسماء يستشيرها وقد بلغت المئة من عمرها؛ ولكنها ممتعة برجاحة عقلها، وقوة إيمانها، فكان مِنْ رأيِها ألَّا يستسلم، ومن قولها لابنها: إن كنت على الحق وإليه تدعو، فامْضِ عليه، فقد قتل عليه أصحابك، واللهِ لضربة السيف في عِزٍّ أحَبُّ إليَّ مِنْ ضرب سَوْطٍ في ذُلٍّ، يا بني: إياك أن تعطي خصلة من دينك مخافة القتل.
فما كان من الشقيِّ الحجَّاج بن يوسف إلا أن رمى الكعبة، وقتل خَلْقًا كثيرًا، منهم عبدالله بن الزبير رضي الله عنه، فأمر الحجَّاج بجثته فصلب، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا.
ولم تلبث أسماء أن لقيت ربَّها بعد وفاة ابنها عبدالله بأيَّام قليلة رضي الله عنها وأجزل ثوابها ورحمها.
نفعني الله وإيَّاكم بما سَمِعْنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب يغفر لكم، إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
إن في سيرة الأَمَة الصالحة أسماء رضي الله عنها مثالًا يبرهن على الدور العظيم الذي تقوم به المرأة المسلمة في خدمة الإسلام وأهله، وفي نَشْر أحكامه ومَحاسِنِه.
صلَّتْ خَمْسَها، وصامَتْ شَهْرَها، وأطاعت زوجَها، وربَّتْ أولادَها، وحفظت بيتها، وأكرمَتْ نفسَها عن الريب والظنون، واتَّخَذت حجابَها عبودية لربِّها وعنوانًا لعِفَّتِها، وكان حفظها للقرآن وما سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث، حفظته ونشرته، وصار مُحرِّكًا لها للعلم والدعوة وللتربية وللجهاد والتوجيه ما يكون مَحَلًّا لاقتداء نسائنا بها، ومن أمثالها من النساء الصالحات القانتات.
فالإسلام عباد الله دين علم وعمل، دين عقيدة وشريعة، دين فيه النساء شقائق الرجال كلٌّ منهم موعود بوعد الله الصادق إذا أمن وعمل صالحًا: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴾ [النساء: 124]، فالمرأة التي لا ترفع بالنساء الأوليات الصالحات رأسًا ولا تعتزُّ بسلفها الصالح الذين كانوا على الخير والهدي والسَّمْت، فهي على غير صراط مستقيم.
تزاحم الرجال، تُخالِط الرجال، تتكشَّف أمام الرجال الأجانب عنها، تتبرَّج في لباسها، تظهر زينتها، ولا تراعي حكم الله في ذلك، ولا تُراقِب الله عز وجل في ذلك، فمن كان هذا شأنها فهي على ضلال مبين.
نسأل الله عز وجل أن يهدي نساء المسلمين، وأن يردهن إليه ردًّا جميلًا.
عباد الله، فقد دخل علينا شهر عظيم وهو شهر الله شهر شعبان وهو بوابة شهر المبارك رمضان.
سأل أسامة بن زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللهِ، لم أرَك تصومُ من شهرٍ من الشُّهورِ ما تصومُ شعبانَ، قال: "ذاك شهرٌ يغفَلُ النَّاسُ عنه بين رجبَ ورمضانَ، وهو شهرٌ تُرفَعُ فيه الأعمالُ إلى ربِّ العالمين، وأُحِبُّ أن يُرفَعَ عملي وأنا صائمٌ"[1].
فاجتهدوا عباد الله في هذا الشهر وتهيَّأوا فيه لموسم رمضان، واستعدُّوا له بالصيام وقراءة القرآن وإطعام الطعام، وذكر الله عز وجل ذكرًا كثيرًا، ولا تُضيِّعوا هذه الأوقات فيما لا ينفعكم عند الله، فطاعة الله تعالى أوْلَى وأحْرَى، والعمل الصالح عند الله أبقى.
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8]، سلك الله بي وبكم طريق مرضاته، وهدانا وإيَّاكم إلى صراطه المستقيم.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|