الإيثار والتوكل في غزوة أحد
الإيثار:
الإيثار خُلُق إسلامي لا وجود له في أي أُمَّة أخرى؛ حتى إنك إن ذهبت تريد ترجمته إلى لغة أخرى ربما أعجزتك مُفردات هذه اللغة أن تجد مرادفًا للإيثار في قواميسها، والإيثار هو أن تُفضِّل غيرَك عليك وتقدِّمه على نفسك؛ بحيث تزول حظوظ النفس في مقابل محبة الآخرين، وهو من أكرم الأخلاق وأسماها؛ لأنه يحتاج إلى مغالبة ومُجاهَدة، ومِن مواقف الإيثار في هذه الغزوة: ما رواه البخاري عن أنس قال: "لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة بن يدي النبي صلى الله عليه وسلم مُجوِّب عليه بجحفة له، وكان أبو طلحة رجلاً راميًا شديد القدِّ يَكْسِر يومئذ قوسين أو ثلاثًا، وكان الرجل يَمُرُّ معه الجَعبة من النَّبْل فيقول: ((انشرها لأبي طلحة))، فأشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم فيقول أبو طلحة: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، لا تُشرِف يُصيبك سهْمٌ مِن سهام القوم، نَحري دون نحرَك"[1].
ومواقف الصحابة في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم وفدائه بأنفسهم مُدهشة، فهذا أبو دجانة ترس دون رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسِه، يقع النَّبلُ في ظهره وهو مُنحنٍ عليه حتى كَثُر فيه النَّبل[2]، وهذا زياد بن السكَن يُقاتِل دون رسول الله حتى أثبتتْه الجراحة، فلمَّا أجهض المسلمون الكفار قال الرسول صلى الله عليه وسلم أَدنوه مني، فأدنوه منه، فوسَّده قدمه، فمات وحدَه على قدم رسول الله[3].
عالَج أبو عبيدة بن الجرَّاح إخراج حلقتي المِغفَر من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكَرِه تناوله بيده فيؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، فأزَّم على إحدى الحلقتَين بفمه فاستخرَجها وسقطَت ثنيته معها، ثم أزم على الأخرى، وفي كل مرة يُحاول أبو بكر أن يصنَع مِثْل ما صنع، لكن أبا عبيدة يرده قائلاً له: أقسمتُ عليك بحقي لما تركتَني[4].
التوكل:
ومِن مواقف التوكُّل في هذه الغزوة:
لما خرَج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المعركة ومعه ألف مُقاتل وعدوُّه في ألفَي مقاتل، بَصر النبي في الطريق كتيبةً كبيرة تسير مع الجيش، فسأل عنها، فقيل له: إنهم حلفاء عبدالله بن أُبيِّ بن سلول من اليهود، فقال رسول الله: ((لا حاجة لنا فيهم، إنا لا نستعين بكافر على مشرك))[5].
وروى ابن هشام أن الأنصار قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ألا نَستعين بحلفائنا من اليهود؟ فقال: ((لا حاجة لنا فيهم))[6].
وهذا مع ما فيه من الفِطْنة والحكمة من عدم ائتمان مَن درجوا على الخيانة من اليهود، فيه تعويد وتوجيه للمسلمين بعدم الاعتماد على الأسباب المادية، وطلب النصرُ من الله تعالى وحده والتوكُّل عليه، ولا بد من تنقية الصف ورعاية وحدة العقيدة؛ لأنها حربٌ على أساس ديني في الأصل، ومعركة بين الحق والباطل.
لما كان المسلمون بالشوط بين المدينة وأحد، انخزَل عن الجيش زعيم المنافقين عبدالله بن أُبي بن سلول بثلث الجيش، وقال: أطاعهم وعصاني، ولا ندري علام نَقتِل أنفسنا ها هنا أيها الناس؟! فرجع بمن اتَّبعه من قومه من أهل النفاق والريب[7].
لقد كان حيلةً ماكرة الغرض منها تحطيم الرُّوح المعنوية للجنود، وزعزعة استقرار الجيش وتفريق كلمته، ولكن النفوس المؤمنة المتوكِّلة على الله لا تؤثِّر فيها رياح النفاق؛ لأنها وقعت على قاعدة مَتينة من الإيمان والتوكُّل؛ ولذلك سار الجيش في طريقه ولم يَأْبه للمُنشقِّين ولم يَأْسَ على مُخذِّل جبان.
أخرج الطبري بسنده عن ابن عباس قال: استَقبَل أبو سفيان في مُنصرَفه من أحد عيرًا واردة المدينة ببضاعة لهم وبينهم وبين رسول الله حبال (عهود)، فقال: إن لكم عليَّ رضاكم إن أنتم رددتُم عني محمدًا ومن معه، إن أنتم وجدتموه في طلبي وأخبرتموه أني قد جمعت له جموعًا كثيرة.
فاستقبلَت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: يا محمد إنا نُخبِرك أن أبا سفيان قد جمع لك جموعاً كثيرة، وأنه مُقبِل إلى المدينة، وإن شئتَ أن تَرجِع فافعل، فلم يزده ذلك ومن معه إلا يقينًا وقالوا: حسْبُنا الله ونعم الوكيل، فأنزل الله - تبارك وتعالى -:
﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران: 173 - 174][8].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|