المنة المحمدية وصناعة الحضارة
1- محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنحة الربانية والمنة الإلهية:
أحبتي، قال الله تعالى في حق نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164].
حق لله عز وجل أن يمتن على الخلق، وقد أكرمهم وأمتعهم ومَنَّ عليهم بعبده الصادق ونبيِّه المصدوق محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وحق على الخلق أن يلهج بحمد الله تعالى وشكره على مِنَّته السابغة، ونعمته الجليلة: محمد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
أحبتي، إن الحضارة رهن ما صنع محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بل إن مبتدأ الحضارة الحقيقي كان بمبعثه عليه الصلاة والسلام؛ من حيث إن الحضارات المادية العالمية القديمة التي قامت قبل مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تقدِّم للبشر إلا الخرابَ الروحي، وإن حقَّقت على الصعيد المادي إنجازاتٍ عديدةً متميزة لا يمكن التغاضي عنها، تُجسِّد ذكاء الإنسان الباهر، وتُظهِر عظمة الله تعالى القادر في خلق الإنسان.
وخذ مثالاً على ذلك الرومان والإغريق والفراعنة... فقد سجل التاريخ الإنساني حضاراتهم كأحد أعرق الحضارات التي عرَفتها الإنسانية، وسارت بذِكرها الأمم والركبان، وصار يشار إليها بالقلم والبنان، ملؤوا الدنى بآثار مادية، وعمروا الدنيا بمآثر تاريخية، لكنها أبدًا لم ترتقِ بالروح البشرية نحو المعالي التي فيها صلاح الإنسان الدنيوي وفلاحه الأخروي، بل ظلت حبيسة الدونية.
لو سألْنا الدنى والورى وأذكياء العالمين جميعًا عن محمد عليه أتم السلام وأفضل الصلاة، لما وسعهم أن ينكروه أبدًا، وإن حاول بعض البائسين يائسًا إنكار نبوته، وجحد رسالته، فإن تاريخ الحياة البشرية المميز يشهد بمآثره وآثاره.
إن العالم أجمع يشهد بأن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم إنسي ليس كبقية الأناسي، وأنه بشري مميز متميز في خَلقه الكامل الوافي، وخُلقه الدمث الصافي، وقوله الصادق الشافي، وكَلِمه الجامع الكافي، وفعله الخالص الراقي، وتأثيره المتميز الباقي.
إن عجائب إنجازات محمد عليه الصلاة والسلام لا تنقضي، يشهد على ذلك إعجازُه النبوي الحضاري في صناعة حضارة في قلب صحراء البداوة والبساطة، إعجازه النبوي الحضاري في صناعة أمة طليعة من قبائل تفرقت قددًا، إعجازه النبوي الحضاري في صناعة أمة مؤثرة ترعى الأمم والدول الأخرى، إعجازه النبوي الحضاري في إعداد القادة وصناع الحياة.
لقد كان للرسالة المحمدية الخاتمة، وشريعته العاقبة: الفضلُ فيما آل إليه حال البشرية من عزة وكرامة، بعد ذل ومهانة، لولا أنها تخلَّت عن إنجازات محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعالم سمته ومنهجه الذي خط لها ورسم.
لهذا لم يتوانَ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه عن نقل شهادته لملِك الحبشة النجاشي رضي الله عنه، وإعلان اعترافه في مجلسه بفضل محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي أجلى بمبعثه ظُلمة حياة قبعت فيها قبائل العرب وأمم العجم أمدًا طويلاً، قال: "أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منَّا، نعرف نَسَبَه وصِدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحِّده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصِدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمَرَنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - فعدَّدَ عليه أمور الإسلام - فصدَّقناه وآمَنَّا به، واتَّبعناه على ما جاء به من دين الله، فعبدنا الله وحده فلم نُشرك به شيئًا، وحرَّمنا ما حرَّم علينا، وأحللنا ما أَحَلَّ..." [1].
هنا قد يعاند بعضهم ويحجم عن الاعتراف بفضل محمد صلى الله عليه وآله وسلم على العالمين، فيطعن في شهادة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، ويشكِّك في اعترافه؛ فيقول: حقيق بجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أن يشهد لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ويعترف له بالفضل وهو ابن عمه وبضعة من أهل بيته.
لكن، هل أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه هو - أيضًا - من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله سلم؟ أم لعل هرقل عظيم الروم وقيصرهم من أهل بيته صلى الله عليه وآله سلم؟!
2- محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ثنائية حوارية بين عربي وأعجمي:
أما بالنسبة إلى هرقل، فهو من العجم، ولا صلة تربطه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم من قريب أو من بعيد، لكن بالنسبة إلى أبي سفيان فقد كان في قومه حسيبًا نسيبًا، وكان من حيث النسب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قريبًا، ومن حيث الإيمان بنبوته ورسالته عليه الصلاة والسلام منكِرًا، معاديًا ومحاربًا، لكن هل منعتْه عداوتُه ومحاربته للنبي عليه الصلاة والسلام أن يعترف له بالشرف والنَّسَب والوجاهة والفضيلة؟
إجابات أبي سفيان بن حرب على أسئلة هرقل قيصر الروم:
لندع أبا سفيان يجيبنا بنفسه، من خلال إجاباته عن أسئلة هرقل التي أراد أن يستخبر منها حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحقيقة ما جاء به من النبوة والرسالة، فقد بلغه خبر نبوته، وانتهى إليه نبأ رسالته، من الكتاب الذي أرسله إليه مع الصحابي الجليل دَحْيَةَ بنِ خليفة الكلبي رضي الله عنه.
وهنا أتخير طرفًا من أهم أجوبة أبي سفيان بن حرب:
• فيكفينا شاهدًا قوله: "هو فينا ذو نسب"، جوابًا عن أول سؤال طرحه عليه هرقل حول حال نسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم: "كيف نسبه فيكم؟".
• نفي أبي سفيان أن يرتد عن دين الإسلام ويرجع عنه سخطة ورغبة في غيره مَن خالط الإيمان شغاف قلبه، ولامست بشاشته روحه، فقال: "لا"، لما سأله هرقل: "فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟".
• نفيه الكذب عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "لا"، لما سأله هرقل: "فهل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟".
• نفيه الغدر عن أخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: "لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها"، جوابًا عن سؤال هرقل: "فهل يغدر؟".
• ولما سأله هرقل: "ماذا يأمركم؟"، أجابه أبو سفيان دون تردد أو تلكؤ: "اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة".
تقريرات هرقل لإجابات أبي سفيان بن حرب:
هنا لا بد أولاً أن نستحضر الضابط الذي طرحه هرقل على أبي سفيان بن حرب، والتدبير الذي قام به قبل أن يوجه إليه أسئلته، كما يروي عبدالله بن عباس[2]رضي الله عنهما: "قال (أي: هرقل): أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: أنا أقربهم نسبًا، فقال: أَدْنوه مني، وقرِّبوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كَذَبني فكذِّبوه...".
يعني: اتخذ هرقل من مرافقي أبي سفيان بن حرب وأصحابه شهداء عليه؛ لئلا يكذب، فيذكرون كذبه إلى هرقل عبر ترجمانه، الحقيقة كان في إمكان أبي سفيان أن يكذب، ويواطئه صحبه وتبعه على كذبه؛ "لاشتراكهم معه في عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم"[3]، دون أن ينتبه هرقل أو أحد من حاشيته إلى كذبه؛ لهذا قال: "فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عليَّ كذبًا لكذبت..."، لكنه لم يفعل؛ أي كان امرأً سيدًا يتكرم عن الكذب، ربما يستقبح الكذب إما أخذًا عن شرع سابق أو عُرْف، ويخشى أن يكذب فينقل الناس كذبه ويتحدثوا به، كما نقل ابن حجر العسقلاني في فتحه[4].
ثم إني أعتقد جازمًا أن أبا سفيان بن حرب لو كذب على هرقل، وأخفى شمائل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومحاسن رسالته، لاكتشف هرقل ذلك حينًا؛ لأنه علم أن الأنبياء كما أجابه أبو سفيان بن حرب، ويزداد يقينًا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قابل الأيام؛ لأنه على يقين بأن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم صادق في قوله وفعله وحاله، مصدوق من العالمين، لا يخفى أمرُ صدقه على أحد منهم.
عودًا إلى هرقل، فإنه لم يتأخر في الاعتراف بمحمد عليه الصلاة والسلام نبيًّا ورسولاً، وقد أقر أبا سفيان على ما أجاب، قال لترجمانه موجهًا كلامه إلى أبي سفيان: "سألتُك عن نسبه، فذكرتَ أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تُبعث في نسب قومها، وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت: أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك: أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بمَ يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقًّا، فسيَملِك موضع قدميَّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه، لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلتُ عن قدمه.
ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بُصرى، فدفعه إلى هرقل عظيم الروم، فقرأه... قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب، كثُر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأُخرِجنا، فقلت لأصحابي حين أُخرجنا: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة؛ إنه يخافه ملك بني الأصفر! فما زلت موقنًا أنه سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإسلام".
طبعًا أنا اكتفيت بذكر ردود هرقل على ما سقته من إجابات أبي سفيان بن حرب عن تساؤلات هرقل، وإلا فإن لهرقل أسئلة أخرى أجاب عنها أبو سفيان لم أذكرها، هذا وقول أبي سفيان: "فما زلت موقنًا أنه سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإسلام" فيه إشارة إلى أنه كان على يقين لا يعتريه أدنى شك أن رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسالة عالمية ستبلغ الآفاق، وأنه لا محالة من التصديق بها، ومِن ثَم فلا مناص من تلافي الكذب في إجاباته عن أسئلة هرقل.
هرقل نفسه أقر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتيقن أن تغييرًا عظيمًا وفريدًا ستشهده جزيرة العرب وما جاورها من ممالك وإمبراطوريات، وأن حضارة مشيدة سينطلق بناؤها قريبًا، معها يُصنع مجد جديد ومتميز للإنسانية جميعًا؛ ولهذا قال هرقل ما قال مظهرًا تأييده وخنوعه لسلطان محمد صلى الله عليه وآله وسلم: "... فإن كان ما تقول حقًّا، فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه، لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه".
فإن قيل: إن هرقل لم يُسلِم، ولم يُظهِر ولاءه ونصرته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنه ظل على نصرانيته وعدائه للإسلام والمسلمين، وإنه على فرض إسلامه فإنه لم يثبت وخبثت نفسه بعدها؟ فهذا كله لا يهم بقدر ما يهم اعتراف هرقل بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم[5]، وأنه نبي مرسل صدقًا لا كذبًا.
وتبقى شهادة هرقل دليلاً واضحًا على أن اعترافات أذكياء الغرب ونخبهم ومفكريهم وفلاسفتهم وعلمائهم بفضل محمد عليه الصلاة والسلام على سائر الأمم، وبصدق رسالته ونبوته العالمية، وهيمنتها على الرسالات والنبوات السابقة، أقول: إن جميع هذه الاعترافات ما هي إلا حلقة صغيرة ضمن سلسلة اعترافات أسلافهم.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|