"إن الله معنا" درس من دروس الهجرة النبوية
أيها الأحباب الكرام، نتذكر معًا اليوم هجرته عليه الصلاة والسلام، الهجرة النبوية المباركة، التي كانت بدايةَ خيرٍ للإنسانية جمعاء.
وما أكثر تلك الدروس والعبر التي نستقيها ونستلهمها من الهجرة المباركة! ولهذا نتتلمذ اليوم على دروس هذه الهجرة، ولن أسلك في ذلك سبيل القصة أو السرد أو الحكاية - مع ما في ذلك من الفوائد العظيمة - ولكن سأحاول أن أقف عند درسٍ من دروسها، وما أكثر دروسها! وما أعظم عبرها! وما أروع عظاتها!
فلقد خرج عليه الصلاة والسلام مطاردًا من قومه يقتفون أثره، يغرون السفهاء من الناس بالجوائز إن هم قبضوا عليه، أو دلوهم على مكانه.
يخرج النبي صلى الله عليه وسلم بصحبة الوفي الصادق الأمين أبي بكر الصديق رضي الله عنه لينزلا في غار ثور، ويصل المشركون عند باب الغار، وتبدأ حينها القصة، وتُسطَّر الملحمة، إنها ملحمة محبة الله جل جلاله والثقة بنصره.
أبو بكر رضي الله عنه يقول: "يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه"، وهنا تتفجر أنهار العظمة، وتتفتق أنوار اليقين، وتعبق روائح الإيمان، وينطق الرسول صلى الله عليه وسلم في موقع الشدة والمحنة، وهي محنة عظيمة تعجز الكلمات عن وصفها والإتيان بحقها، فيقول عليه الصلاة والسلام: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟))، وينقل الوحي هذه اللقطة الرائعة، وهذه اللفتة الكريمة، وهذه الوقفة الماتعة، وهذه الكلمات الجميلة، ينقلها الوحي؛ ليقتنصها عشاق الكمال ومحبو الجمال، ومن قلب الغار، وللغار أسرار؛ فلقد نزلت فيه أول كلمات الوحي: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، وفي الغار يتجلى معنى الوحي إيمانًا وثقةً ويقينًا وثباتًا: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40].
﴿ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾: إنها الرعاية، إنها العناية، إنها أرقى مقامات العبودية وأعلى منازلها.
إنه عنوان عظيم، ومشهد كريم، لو عملت الأمة بمقتضاه وجعلته عنوانًا، لارتقت وتألقت، ولتقدمت ولتحضرت ونهضت، ولما كانت على ما هي عليه اليوم من الانكسار والتشتت.
﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ هذا هو الشعار الذي يجب أن ينطلق من أفواهنا اليوم، ويتجسد في أعماقنا، ويسري في كل خلايا أجسادنا.
هذا هو الشعار الذي يجب على كل واحد منا أن يلتزم به، وأن يعيش بمقتضاه، إن نحن أردنا السكينة في دنيا الضوضاء، وإن نحن أردنا التأييد في عالم الخذلان، وإن نحن أردنا الأمن في مسرح الخوف وعالم القلق.
لأننا إذا كنا في حياتنا مع الله، متبعين لرسوله، معظمين لأوامره - كان الله معنا؛ فلا نحزن ولا نقلق ولا نكتئب، ولا نضل ولا نضيع، ولا نيئس ولا نقنط، ولا نأسف على قلة عدد، أو عوز عتاد، أو فقر مال، أو تخاذل أعوان؛ لأن الله معنا، والنصر حليفنا، والفرج رفيقنا، والفتح صاحبنا، والفوز غايتنا، والفلاح نهايتنا.
وكيف نقلق ومعنا الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي بيده مقاليد الحكم ورقاب العباد، ومقادير الخلق وأرزاق العباد؟
كيف نقلق وكيف نحزن، ومعنا الله سبحانه، الركن الذي لا يُضام، والعزة التي لا تُرام، والقوة التي لا تُقهر، والجبروت الذي لا يُغلب؟
﴿ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ إنها كلمة عظيمة في الخطب، وجملة شريفة في الكرب،كان لهذه الكلمة في زمنها الذي قيلت فيه، وجوها المخيف المرعب، ومكانها المزلزل - طعمٌ آخر، وقصة أخرى!
لقد جاءت في لحظة طُوِّق فيها المعصوم وصاحبه في الغار، وأُغلق الباب، وأحاط الأعداء بهما من كل جانب، فسلُّوا سيوف الموت، يريدون أشرف مهجة خُلقت، وأزكى نفس وُجدت، وأطهر روح خُلقت، فما الحيلة؟
الحيلة هي رفع الأمر إلى من على العرش استوى؛ ليقضي فيها بما يشاء؛ فقال: ﴿ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾، فجاء الرد السريع من الواحد الأحد، والجواب العاجل من العظيم المنان: ﴿ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ﴾، فانقلب الحزن سرورًا، والهم فرحًا، والكرب فرجًا، والهزيمة نصرًا عزيزًا مؤزرًا:
﴿ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأقول ما سمعتم، واستغفروا الله لي ولكم من كل ذنب، فيا فوز المستغفرين ويا نجاة التائبين...
الخطبة الثانية
أحبتي الكرام، حدث الهجرة النبوية حدث عظيم، له آثاره المباركة وأبعاده ودروسه المتجددة، التي تسهم في صنع التغيير في نفسياتنا وفي واقعنا العملي، الدروس التي تجعلنا نحمل مسؤولية البناء والإعداد والتخطيط، وصناعة الأمل والتفاؤل الذي نقتبسه من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث تحول الحلم إلى حقيقة.
ولهذا، فإن درس الهجرة اليوم نختصره في تلك الثقة المطلقة بالله، وتلك النفس الأبية والروح المطمئنة، التي تبتسم في وجه الموت والتي لا يجيدها إلا العظماء، والشجعان والأبطال، والربانيون والمصلحون: ((يا أبا بكر، لا تحزن إن الله معنا)).
إنها معية الله وعنايته التي لا تساويها أي معية على وجه الأرض.
وما أكثر أولئك الذين يتفاخرون بمعية مشاهير الفن واللهو أو غيرهم، يحتمون بهم ويلوذون بحماهم، وهؤلاء هم من أعمتهم دنياهم عن أخراهم، وغرهم الشيطان عن رب الأرباب، وتغافلوا بمعية الناس عن معية رب الناس ملك الناس.
أما معشر المؤمنين فعزهم وفخارهم بمعية الله لهم، ولو اجتمع عليهم العالم بأسره؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء، لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)).
﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ معية صاحبت رسول الله وصاحبه في الغار، وهي المعية نفسها التي صاحبت نبي الله إبراهيم عليه السلام وهو يهوي، فأتاه جبريل عليه السلام يعرض عليه العون والحاجة، فقال له بلسان الواثق بمعية ربه: ((أما إليك فلا، وأما من الله فبلى))، فأبطل مفعول النار وقال: ﴿ يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69]، وهي المعية التي صاحبت موسى عليه السلام؛ ليدخل على إيوان ومجلس فرعون، ويقول لربه: ﴿ إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى ﴾ [طه: 45]، فيلقي عليه رب العزة الأمان والحماية فيقول له: ﴿ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ [طه: 46]، فما أجمل هذه الكلمة وما أروع هذا الشعار: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ شعار يجعلك واثقًا بالله، مستشرفًا عطاءه، مستشعرًا معيته، شعار تقوله في الرخاء فيجعلك تستحضر نعمة ربك عليك؛ فتجود لله وتعطي لله، شعار تقوله وأنت في عملك الوظيفي؛ فيحملك على مراقبة الله وعدم ظلم عباده.
فما أحوجنا إلى استشعار معية الله في كل حال وعلى أي حال، ونحن نصارع ظروف الحياة القاسية، ونحن نواجه الحياة المتقلبة، ونحن نواجه الفتن المتعاقبة.
فإذا داهمك أمر فقل: إن الله معنا، وإذا نزلت بك مصيبة فقل: إن الله معنا، وإذا أدلهمت الخطوب فقل: إن الله معنا، وإذا تكاثف همك وكثر غمك وتضاعف حزنك، فقل لنفسك وقلبك: إن الله معنا، واذا ركبك الدَّين وأضناك الفقر وشواك العدم، فقل لنفسك وقلبك: إن الله معنا، إذا هزتك الأزمات وطوقتك الحوادث وحلت بك الكربات، فقل لنفسك وقلبك: إن الله معنا؛ فإنها ترياق المهموم، وسلوة المحزون، وأنس الحائر، وإذا نزل بك المرض وصرت ممددًا على السرير الأبيض، واستشعرت قرب النهاية، وبدت لك معالم الرحيل - فقل لنفسك: إن الله معنا؛ فسيحملك هذا على حب لقاء الله: ﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [العنكبوت: 5].
﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|