الامتحان الأكبر
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي جعلَ جنةَ الفردوسِ لعبادهِ المؤمنينَ نزلًا، ويَسَّرهم للأعمالِ الصالحةِ الموصلةِ إليها، فلم يتخذوا سِواها شُغلًا، وسهَّلَ لهم طُرُقَها فسلكوا السبيلَ الموصلةَ إليها ذُللًا، خلقها لهم قبلَ أن يخلُقَهم، وأسكنهم إياها قبل أن يوجِدَهُم، وحَفَّها بالمكارهِ، وأخرجهم إلى دارِ الامتحانِ ليبلوهم أيهم أحسن عملًا، وأودعَ فيها ما لا عين رأت، ولا أُذُن سمعت، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ: ﴿ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا ﴾ [مريم: 63] وبشرهم بما أعدَّ لهم على لسانِ رسوله صلى الله عليه وسلم فهي خير البِشْر في كتابِ اللهِ على لسانِ البشيرِ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ وأمينُهُ على وحيهِ، وخيرتُهُ من خلقِه صلى الله عليه وسلم، أرسلهُ اللهُ رحمةً للعالمين ومحجةً للسالكين القائل: ((من سأل الله الجنة ثلاث مرات قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ومن استجار من النار ثلاث مرات، قالت النار: اللهم أجِرْه من النار))، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واخشوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].
أيها المسلمون، إن هذه الدار دار الدنيا هي دار امتحانٍ واختبارٍ وابتلاءٍ ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2]، وهذا الاختبارُ نهايتُهُ تكونُ بالموتِ، ونتيجتُهُ يومُ القيامةِ، قال تعالى: ﴿ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185].
ونحن في هذا الاختبار مراقَبون، وكُلُّ حركاتِنا مرصودة، قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الانفطار: 10 - 12].
فأما موضوعُ الاختبارِ فهو الإيمانُ؛ كما قال - تبارك وتعالى -: بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ [العنكبوت: 1، 2].
وأما الأسئلةُ فهي المذكورةُ في قوله سبحانه: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ﴾ [البقرة: 155]، وقوله: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35]، فأخبرَ قبلَ وقوعِها بأنها اختبارٌ وابتلاءٌ وامتحانٌ.
وأما مكانُ الاختبارِ، فهو هذه الحياةُ الدنيا، فما دام الإنسانُ حيًّا فيها فهو تحت الاختبار، فيأخذ حذره واستعداده.
وأما أسبابُ النجاحِ فهي المذكورة في قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ﴾ [البقرة: 153]، وقوله: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 155، 156]، فالصبرُ والصلاةُ وتفويضُ الأمرِ للهِ وشكرُ النعمةِ هي أسبابُ النجاحِ.
وأما تقديرُ النجاحِ فهي قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 157].
قال الحافظُ ابنُ كثيرٍ رحمه الله: قال أمير المؤمنين عمرُ بن الخطابِ رضي الله عنه: نعم العدلانِ ونعمت العلاوةِ: ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ فهذان العدلان، ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ فهذه العلاوة، أعطوا ثوابهم وزيدوا عليه أيضًا.
وأما فائدةُ الاختبارِ؛ فكما قال سبحانه: ﴿ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 3]، وقوله:﴿ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ﴾ [العنكبوت: 11]، لمعرفةِ القلوبِ الطيبةِ النظيفةِ المستنيرةِ بنورِ الإيمانِ التي تصلحُ لتحَمُّلِ أمانةِ اللهِ والعملِ بها وتبليغِ رسالة نبيه - صلى الله عليه وسلم- والدعوةِ إليها.
وأما ثمرتُهُ: فالاختبارُ كسبُ درجةٍ عاليةٍ في الإيمانِ، والحثُّ على تطهيرِ النفسِ، وإزالةُ الغشاوةِ عن العيونِ، وإزالةُ الرانِ عن القلوبِ، كما يمحو السيئات، ويشدُّ العزائم، ويصفي العقائد، ويقوِّي الصلة بالله، فيكون المؤمن طاهرًا نقيًّا، مؤهلًا لأن يكون في خدمةِ الله ومن حزبِ الله، من أولياءِ الله، من المُقرَّبين إلى الله، فمن كان مع اللهِ وصبر على بلاءِ الله، وشكَرَ نِعَمَ اللهِ، كان الله معهُ يوفِّقهُ، ويسددهُ ويحفظهُ، ويوجهه لكل خيرٍ، ويصرفه عن كل شرٍّ، ينير الطريقَ أمامَهُ، وهذه حالُ المؤمنِ الحقيقي، المؤمن الصادق.
أما الآخرةُ، فكما قال سبحانه: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، لا يقدر له قدر، ولا يحد له أجر، إنما هو من فضل الجواد الواجد الكريم.
ذكر ابن كثير في تفسيره: أن علي بن الحسين زين العابدين -رضي الله عنهما -قال: "إذا جمع الله الأوَّلين والآخرين ينادي منادٍ: أين الصابرون؟ ليدخلوا الجنة قبل الحساب. قال: فيقوم عنق من الناس - أي جماعة - فتتلقَّاهم الملائكة فيقولون: إلى أين يا بني آدم؟ فيقولون: إلى الجنة، فيقولون: قبل الحساب؟ قالوا: نعم، قالوا: ومن أنتم؟ قالوا: نحن الصابرون، قالوا: وما صبركم؟ قالوا: صبرنا على طاعة الله، وصبرنا على معصية الله، حتى توفَّانا الله، قالوا: أنتم كما قلتم، ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين". ويشهد لهذا قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].
أيها المسلمون، ما أشبه اليوم بالغد! أترون أيّ غد أعني؟ إنه يوم الامتحان الأكبر، يومُ السؤالِ عن الصغيرةِ والكبيرةِ، السائلُ ربُّ العزةِ سبحانه، والمسؤول أنت يا عبدالله، لما روى مسلم في صحيحه عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشقِّ تمرة))، نعم، إنه امتحان مهول، يدخله كل الخلائق في يوم مهول.
تذكر يا عبدالله عند إلقاء السؤال في قاعة الامتحان سؤال الله يوم القيامة يوم يدنيك ربُّ العزة فيقرِّرك بذنوبك ويقول: عبدي، أتذكر ذنبَ كذا في يوم كذا؟ تذكر يا عبد الله يوم توزيع الشهادات على الطلاب، تذكر ذلك اليوم العظيم الذي تُوزَّع فيه الصحف، ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ﴾ [الحاقة: 19 - 27]، نسألك يا رب أن تعاملنا بعفوك لا بعدلك، أنت أهل التقوى وأهل المغفرة.
والرضا بقضاء الله والتسليم لأمر الله نعمةٌ من الله على عباده، فإن انتهيت من الاختبارات وكانت النتيجة طيبة فاحمد الله جل وعلا، واعلم أن ذلك بتوفيقه سبحانه، ولتقل بلسان الحال والمقال:
أعطيتني الجليلا
منحتنِي الْجزيلا
سوَّغتنِي الجميلا
تفضُّلًا وطولًا
بأيِّ لفظ أشكرك
بأيِّ حمد أذكرك
الْحمد للرحمن
والشكر للديَّان
والمدح للمنَّان
على العطا الهتَّان
وإن كانت الأخرى فلم توفق للنجاح فاحمد الله جل وعلا وأحسن الظن بربك؛ فلعل درجة من الدنيا تفوت فيعوضك الله بها درجات في الآخرة، وكن على الحال التي أخبر عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: ((عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمْرَه كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له))؛ أخرجه مسلم من حديث صهيب رضي الله عنه، وهذا خير عام شامل في أمور الدين والدنيا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، وادعوه يستجب لكم، إنه هو البر الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، قلوب العباد بين إصبعيه يُقلِّبها كيف يشاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واتبع مِلَّته، أما بعد:
فأوصيكم وإياي بتقوى الله، واعلموا أن مدار التقوى على صلاح القلب، فبصلاح القلب تصلح الجوارح والأعمال، وبفساده تفسد الجوارح والأعمال، والقلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، ففي الصحيحين عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الحلالَ بيِّن وإن الحرام بيِّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)).
ولا صلاح للقلوب حتى تستقر فيها معرفة الله وعظمته ومحبته وخشيته ومهابته، ولا صلاح لأهل الأرض إلا بالإيمان بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وبصلاح الرعاة تصلح الرعايا، فاتقوا الله أيها المسلمون.
وصلّوا وسلموا عباد الله على رسول الهُدَى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولك محمَّد، وارضَ اللَّهمَّ عن الخلفاءِ الأربعة الرَّاشدين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، اللهم اجعلنا ممن يعظم أوامرك وشعائرك، اللهم أسعدنا بتقواك، واجعلنا نخشاك، حتى كأننا نراك.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وتولَّى أمرنا، واهدِ شبابنا.
اللهم إنا نسألك الهُدى والتُّقى والعفاف والغِنى، اللهم أيقظ قلوبنا من الغفلات، وطَهِّر جوارحنا من المعاصي والسيئات، ونقِّ سرائرنا من الشرور والبليات.
اللهم باعد بيننا وبين ذنوبنا كما باعدت بين المشرق والمغرب، ونقِّنا من خطايانا كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدَّنَس، واغسلنا من خطايانا بالماء والثلج والبَرَد.
اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، وثبِّتْنا على الصراط المستقيم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
اللهم اجعلنا من المتقين الذاكرين الذين إذا أساءوا استغفروا، وإذا أحسنوا استبشروا، وإذا امتحنوا صبروا، وإذا أعطوا شكروا.
﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 - 182].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|