تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ..)
قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 164].
ذكر عز وجل في الآية السابقة تفرده بالألوهية وحده دون سواه، ثم ذكر الآيات الدالة على ذلك فقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 164].
قوله: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ ﴾ "إنَّ": حرف توكيد ونصب، ﴿ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف في محل رفع خبر "إنَّ" مقدم، وقوله: ﴿ لَآيَاتٍ ﴾: اسمها مؤخر.
أي: إن في إيجاد السموات السبع في عظمتها وارتفاعها واتساعها وإحكامها وإتقانها وما جعل الله فيها من الكواكب ودوران فلكها وغير ذلك من المخلوقات، وما في ذلك من المنافع، وفي إيجاد الأرضين السبع في عظمتها وانخفاضها وبسطها وما فيها من المخلوقات العظيمة من الجبال والبحار والقفار والعمران والحيوان وغير ذلك وما في ذلك كله من المنافع دلالة على وجود الخالق وعظمته، وكمال ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته ووحدانيته وقدرته وحكمته ورحمته، كما قال تعالى: ﴿خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ﴾ [الملك: 3، 4].
وقال تعالى: ﴿خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الطلاق: 12].
﴿ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾: معطوف على "خلق"، و"الليل": اسم للظلمة والسواد الذي يعم مقدار نصف كرة الأرض الذي يكون غير مقابل للشمس.
و"النهار": اسم للضياء والنور التام الذي يعم مقدار نصف كرة الأرض الذي يكون مقابلاً للشمس، وقدم الليل لسبقه، قال تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ﴾ [يس: 37].
واختلاف الليل والنهار في جوانب كثيرة وأمور عدة، منها: الضياء الظلمة، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ﴾ [الإسراء: 12].
قال الشاعر:
وإذا رأيت الليل يغشي داجياً
فاسأله من يا ليل حاك دجاكا
وإذا رأيت الصبح يسفر ضاحيا
فاسأله من يا صبح صاغ ضحاكا[1]
ومنها تعاقبهما، كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 62] ، وقال تعالى: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [يس: 40]. قال زهير[2]:
بها العين والآرام يمشين خلفة
وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
أي: إذا ذهب قطيع خلفه قطيع آخر.
ومنها تساويهما أحياناً، وطول أحدهما وقصر الآخر أحيانا بحسب الفصول والأمكنة، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ﴾ [لقمان: 29] ، أي: يزيد من هذا في هذا ومن هذا في هذا.
وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ ﴾ [المزمل: 20] ، وقال تعالى: ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ﴾ [الزمر: 5].
ومنها: كون الليل محلاً للسكون والنهار وقتاً لطلب المعاش، كما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ﴾ [يونس: 67] ، وقال تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [النمل: 86] ، وقال تعالى ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ﴾ [غافر: 61].
وقال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [الروم: 23]، وقال تعالى ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ﴾ [الفرقان: 47]، وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ﴾ [النبأ: 10، 11].
وقال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [القصص: 71 - 73].
قال الشاعر:
ولو جن هذا الليل وامتد سرمداً
فمن غير ربي يرجع الصبح ثانيَا
ومنها: اختلاف الأحوال فيهما من حر إلى برد، ومن عز إلى ذل، ومن رخاء إلى شدة، ومن غنى إلى فقر، ومن صحة إلى مرض، ومن فرح إلى حزن، ومن حياة إلى موت، وغير ذلك وعكسه، كما قال تعالى: ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [النور: 44].
﴿ وَالْفُلْكِ ﴾ معطوف على ﴿ خَلْقِ ﴾ أي: وفي الفلك، ﴿ وَالْفُلْكِ ﴾ أي: السفن، وتطلق الفلك، على الجمع والمفرد، وتؤنث كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ﴾ [يونس: 22].
وتُذكَّر كما في قوله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ﴾ [يس: 41].
﴿ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ ﴾: صفة لـ﴿ وَالْفُلْكِ ﴾ أي: التي تسير في البحر وتمخر عبابه، وتغوص في أعماقه، أو تسير على سطحه، من غير أن تغرق مع عظمها وثقل حملها، كما قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ﴾ [الشورى: 32].
﴿ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ ﴾ الباء للمصاحبة، "ما" مصدرية، أو موصولة، أي: مصحوبة بنفع الناس أو بالذي ينفعهم من حملهم في تنقلاتهم، ونقل الأمتعة والبضائع والأرزاق لهم، فهي آية من حيث أنها تجرى في البحر وفي تسخير البحر لها، وهي نعمة من حيث أنها تجري بما ينفع الناس.
كما قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ﴾ [إبراهيم: 32] ، وقال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ ﴾ [الجاثية: 12] ، وقال تعالى: ﴿تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ [لقمان: 31].
﴿ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾ الواو: عاطفة، و"ما": اسم موصول معطوف على "خلق"، أي: وفي الذي أنزل الله.
﴿ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ "من": لابتداء الغاية، والمراد بـ "السماء" هنا العلو؛ لأن الماء ينزل من السحاب المسخر بين السماء والأرض، وليس من جرم السماء نفسها، كما قال تعالى في آخر الآية: ﴿ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾.
﴿ مِنْ مَاءٍ ﴾ "من": بيانية، فهي بيان لـ "ما" الموصولة، والمراد به المطر الذي ينزله الله من السماء.
﴿ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ ﴾ معطوف على "أنزل"، والفاء للتعقيب، للدلالة على سرعة حياة الأرض إثر نزول المطر بأمر الله عز وجل، أي: فأحيا بسببه الأرض بالنبات.
﴿ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ أي: بعد أن كانت ميتة يابسة هامدة لا نبات فيها ولا حياة، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً ﴾ [الحج: 63].
وقال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [الروم: 24]، وقال تعالى: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [الحج: 5].
وقال تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يس: 33 - 36].
وقال تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾ [عبس: 24 - 32].
وبين السماء والأرض، وأحيا وموت: طباق إيجاب.
﴿ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ﴾ معطوف على ﴿ أَنْزَلَ ﴾ أو على "أحيا"، أي: وما "بث فيها".
و"بث" بمعنى نشر وفرق ﴿ فِيهَا ﴾ أي: في الأرض ﴿ مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ﴾، ﴿ مِنْ ﴾ بيانية، أو تعقيبية.
والدابة: كل ما يدب ويمشي على وجه الأرض، أي: وما نشر وفرق في الأرض من جميع أنواع وأشكال الدواب التي تمشي على الأرض، من ناطق أو بهيم، عاقل أو غير عاقل، من إنسان أو حيوان أو طير أو حشرات، أو غير ذلك.
﴿ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ﴾ معطوف على "خلق" أي: وفي تصريف الرياح، قرأ حمزة والكسائي بالإفراد: ﴿ الرِّيَاحِ ﴾ والمراد به الجنس، وقرأ الباقون بالجمع: ﴿ الرِّيَاحِ ﴾.
وعقَّب إحياء الأرض بالمطر وبث الدواب فيها بتصريف الرياح؛ لأن فيها نمو النبات وبناء حياة الحيوانات التي تدب على وجه الأرض، و"الرياح" جمع: "ريح".
ومعنى "تصريف الرياح": تدبيرها في هبوبها وسكونها، وتنويع اتجاهاتها، وشدتها ولينها، ومنافعها وآثارها حال هبوبها أو سكونها على الإنسان والحيوان والنبات وغير ذلك كالسفن والسيارات والطائرات ونحو ذلك.
تارة تكون شرقية، وهي "الصبا" التي نصر بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وفرق الله بها جموع الأحزاب يوم الخندق، كما قال صلى الله عليه وسلم "نصرت بـ "الصبا""[3].
وتارة تكون غربية وهي العقيم، أي: المهلكة التي لا نفع فيها، وهي التي أهلك الله بها عاداً كما قال تعالى: ﴿وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ﴾ [الذاريات: 41، 42] ، وقال تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [فصلت: 16].
وقال تعالى: ﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ﴾ [الحاقة: 6 - 8] ، وقال تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ﴾ [القمر: 19، 20].
وتسمى بـ "الدبور" كما قال صلى الله عليه وسلم: "وأهلكت عاد بالدبور"[4].
وسميت بـ"الدبور"؛ لأنها تستدبر السحاب، فيحصل بسبب ذلك أحياناً الغرق أو الهلاك.
وتارة تكون الريح جنوبية، وتارة شمالية، وتارة شمالية شرقية، وتارة شمالية غربية، وتارة جنوبية شرقية، وتارة جنوبية غربية.
وتارة لينة رخاء، طيبة، كما قال تعالى: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ﴾ [ص: 36] ، وقال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ﴾ [يونس: 22].
وتارة تكون عاصفة أو حاصباً أو قاصفاً، كما قال تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ ﴾ [الأنبياء: 81] ، وقال تعالى: ﴿جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ﴾ [يونس: 22] ، وقال تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا ﴾ [العنكبوت: 40] ، وقال تعالى: ﴿فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ﴾ [الإسراء: 69].
وتارة تكون حارة سموماً، وتارة تكون باردة ذات صوت وهي الصر، والصرصر كما قال تعالى: ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ﴾ [آل عمران: 117] ، وقال تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا ﴾ [القمر: 19].
وتارة تكون رحمة، فتأتي مبشرة بين يدي رحمة الله تعالى بنزول المطر وتثير السحاب وتجمعه وتسوقه وتلقحه وتدره وتمطره، وقد تفرق السحاب وتصرفه لحكمة.
كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ﴾ [الأعراف: 57] ، وقال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ ﴾ [الروم: 46]، وقال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [الروم: 48] ، وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ﴾ [فاطر: 9].
وتسوق السفن تمخر عباب البحر، كما قال تعالى: ﴿إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ ﴾ [الشورى: 33] ، وقال تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾ [الحجر: 22]. وتارة تكون عذاباً، كما قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الأحقاف: 24، 25].
إلى غير ذلك من أحوال الرياح وآثارها مما لا يعلمه إلا الله عز وجل.
ففي تصريف الرياح وتقليبها وتنويعها آيات عظيمة دالة على كمال قدرة الله عز وجل وحكمته ورحمته.
فلو سكنت الريح لأضر ذلك بالعالم كله، وكذا لو بقيت في اتجاه واحد، لكنها تتقابل فيكسر بعضها حدة بعض، ويذهب بعضها ما جاء به البعض الآخر من الأذى والجراثيم ونحو ذلك.
﴿ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ معطوف على ما سبق، أي: وفي السحاب، أو على "الرياح" خاصة، أي: وفي تصريف السحاب المسخر، أي: نقله من موضع إلى آخر.
وذكر السحاب بعد الرياح؛ لأن الرياح هي التي تثيره وتجمعه وتسوقه وتدره وتمطره وغير ذلك بأمر الله عز وجل.
والسحاب: الغمام، وسُمي سحاباً؛ لأنه ينسحب انسحاباً في الجو، ويسحب الماء معه، وتسحبه الرياح.
﴿ الْمُسَخَّرِ ﴾ أي: المذلل بأمر الله عز وجل، يصرفه الله كيف يشاء، وحيث يشاء، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا ﴾ [الفرقان: 50].
﴿ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ فلا ينزل مع كثافته وثقله، كما قال عز وجل: ﴿وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ﴾ [الرعد: 12] ، ولا يرتفع مع خفته ولطافته.
أي: بين السماء التي هي السقف لهذا الكون، كما قال تعالى: ﴿وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ﴾ [الطور: 5]، وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنبياء: 32]. والأرض هي التي نحن عليها، فالسحاب تحت السماء التي هي سقف هذا الكون، وبينها وبين الأرض، وليس في السماء التي هي الأجرام.
﴿ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ اللام للتوكيد، و"آيات" اسم "إنّ" في قوله: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ مؤخر، ونكر "آيات" للتعظيم والتفخيم، كماً وكيفاً.
أي: لآيات عظيمة كثيرة، والآيات: جمع آية، وهي العلامة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ ﴾ [البقرة: 248] أي: إن علامة ملكه.
ففي خلق السموات والأرض وما فيهما وما بينهما من المخلوقات والعوالم وما في ذلك من عظمة الخلق وتمامه آيات، كما قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴾ [الروم: 22].
وفي اختلاف الليل والنهار ضياء وظلمة، وطولاً وقصراً، وتعاقبهما، وتبدل الأحوال فيهما آيات، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ﴾ [يونس: 6].
وفي الفلك والسفن التي تجري في البحر مع عظمتها وثقل حملها وما فيها من المنافع للناس في نقلهم ونقل الأمتعة والبضائع والأرزاق لهم آيات.
وفيما أنزل الله من السماء من مطر فأحيا به الأرض بعد موتها آيات، كما قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [فصلت: 39].
وفيما بث في الأرض من أنواع وأجناس الدواب المختلفة آيات.
وفي تصريف الرياح وتدبيرها وتنويع اتجاهاتها ولينها وشدتها ومنافعها وآثارها آيات.
وفي السحاب المسخر بين السماء والأرض لمصالح الخلق آيات.
أي: في ذلك كله آيات، أي: علامات ودلائل على وجود الخالق وعظمته ووحدانيته، وقدرته الظاهرة وحكمته الباهرة ورحمته الواسعة وعنايته التامة بخلقه وكمال ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، واستحقاقه للعبادة وحده دون من سواه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190، 191].
وقد أحسن القائل:
والكون مشحون بأسرار إذا
حاولت تفسيراً لها أعياكا[5]
قوله: ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ ﴿ لِقَوْمٍ ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة "لآيات" أي: لآيات بينات لقوم يعقلون، و"القوم" هم الجماعة من الناس.
﴿ يَعْقِلُونَ﴾ أي: ذوي عقول يتفكرون بها ويُعْملونها فيما خلقت له وينتفعون بها، بخلاف من عداهم ممن لا ينتفعون بعقولهم، وذلك أن العقل عقلان، عقل هو مناط التكليف، قال صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق، والصغير حتى يبلغ"[6].
وعقل هو مناط المدح وهو الذي يحمل صاحبه على فعل ما ينفعه ويمنعه عن فعل ما يضره، كما قال تعالى: ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ﴾ [الفجر: 5] أي: لذي عقل يحجر صاحبه ويمنعه عما يضره، وهو المراد بقوله تعالى هنا: ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
فمن أعمل عقله وتفكر في خلق السموات والأرض، وفي اختلاف الليل والنهار، وفي الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وفيما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وما بث فيها من دابة، وفي تصريف الرياح، وفي السحاب المسخر بين السماء والأرض ظهر له ما في ذلك كله من الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى، ووحدانيته ورحمته وحكمته، وكمال ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.
المصدر: « عون الرحمن في تفسير القرآن »
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|