عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أحرز الوالدُ أو الولدُ، فهو لعصبته مَن كان))؛ رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وصحَّحه ابن المديني وابن عبدالبر.
المفردات:
ما أحرز؛ أي: ما حاز وامتلك.
لعصبته من كان: المراد بالعصبة هنا - إن صح الحديث - هم الورثة مطلقًا، أو أقرب الرجال إلى الميت بعد ذوي الفروض؛ إذ إن حظ العصبة من التركة إنما يكون بعد ذوي الفروض، كما تقدَّم في الحديث الأول من أحاديث هذا الباب، والعصبة في الاصطلاح كل ذَكَر يُدلِي بنفسه بالقرابة ليس بينه وبين الميت أنثى.
ابن عبدالبر: هو الإمام الحافظ، أبو عمر، يوسف بن عبدالله بن محمد بن عبدالبر بن عاصم النمري القرطبي، ولد سنة ثمان وستين وثلثمائة في ربيع الآخر، وطلب الحديث، قال أبو الوليد الباجي: لم يكن بالأندلس مثلُه في الحديث، وقد ألف التمهيد، والاستذكار، والاستيعاب، وفضل العلم، والتقصي على الموطأ، وقبائل الرواة، والشواهد في إثبات خبر الواحد، والكنى والمغازي، والأنساب، وتوفي في ليلة الجمعة، سلخ ربيع الآخر، سنة ثلاث وستين وأربعمائة، عن خمس وتسعين سنة.
البحث:
هذا الحديث من رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وفي ألفاظه بعضُ اختلاف، ففي سنن أبي داود أن رئاب بن حذيفة تزوَّج امرأةً فولدَتْ له ثلاثة غلمة، فماتت أمُّهم فورثوها رِباعَها وولاءَ مَواليها، وكان عمرُو بن العاص عَصَبةَ بنيها، فأخرجهم إلى الشام، فماتوا فقدَّم عمرو بن العاص، ومات مولًى لها وترك مالًا، فخاصمه إخوتها إلى عمر بن الخطاب، فقال عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أحرز الولدُ أو الوالد، فهو لعصبته مَن كان))، قال: فكتب له كتابًا فيه شهادة عبدالرحمن بن عوف، وزيد بن ثابت ورجل آخر، فلما استخلف عبدالملك اختصموا إلى هشام بن إسماعيل، أو إسماعيل بن هشام، فرفعهم إلى عبدالملك، فقال: هذا من القضاء الذي ما كنت أراه، قال: فقضى لنا بكتاب عمر بن الخطاب، فنحن فيه إلى الساعة؛ اهـ.
وقد ساقه ابن ماجه بأوضح من ذلك، ولفظه: تزوَّج رياب بن حذيفة بن سعيد بن سهم أمَّ وائل بنت معمر الجمحية، فولدت له ثلاثة، فتوفيت أمُّهم، فورثها بنوها رِباعًا وولاءَ مواليها، فخرج بهم عمرو بن العاص إلى الشام، فماتوا في طاعون عَمْواس فورثهم عمرو، وكان عَصَبتَهم، فلما رجع عمرو بن العاص جاء بنو معمر يخاصمونه في ولاء أختهم إلى عمر، فقال عمر: أقضي بينكم بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمِعتُه يقول: ((ما أحرز الولد والوالد، فهو لعَصَبته مَن كان))، قال: فقضى لنا به، وكتب لنا به كتابًا في شهادة عبدالرحمن بن عوف وزيد بن ثابت وآخر، حتى إذا استخلف عبدالملك بن مروان توفي مولًى لها وترك ألفَي دينار، فبلغني أن ذلك القضاء قد غُير، فخاصموا إلى هشام بن إسماعيل، فرفعنا إلى عبدالملك، فأتيناه بكتاب عمر، فقال: إن كنت لأرى أن هذا من القضاء الذي لا يشك فيه، وما كنت أرى أن أمر أهل المدينة بلغ هذا، أن يشكو في هذا القضاء، فقضى لنا فيه، فلم نزل فيه بعد؛ اهـ.
هذا وقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفس محمد بيده، إن على الأرض مِن مؤمن إلا أنا أولى الناس به، فأيُّكم ما ترك دَينًا أو ضِياعًا فأنا مولاه، وأيكم ترك مالًا فإلى العَصَبة مَن كان)).
وفي لفظ: ((أنا أولى الناس بالمؤمنين في كتاب الله عز وجل، فأيكم ما ترك دَينًا أو ضَيعة فادعوني فأنا وليُّه، وأيكم ما ترك مالًا فليُوثِر بماله عَصَبته مَن كان)).
ومعنى: ((فليؤثر بماله عَصَبته من كان))؛ أي: فليقدموا ويفضلوا منفردين بماله، صغارًا كانوا أو كبارًا؛ أي: بعد استيفاء ذوي الفروض فروضَهم؛ كما أشرت إلى ذلك في مفردات حديث الباب.
كما أخرجه البخاري في تفسير سورة الأحزاب من صحيحه، بلفظ: ((فأيما مؤمن ترك مالًا فليَرِثه عصبته من كانوا))؛ أي: بعد ذوي الفرائض؛ كما تقدَّم مزيد بحث لذلك في الحديث الثالث من أحاديث باب الحوالة والضمان.