الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ أما بعد:
فالموت نهاية كل حيٍّ لا محالة؛ يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾ [الزمر: 30]، ولو حاول الإنسان الفرارَ منه فلن يستطيع؛ يقول الله عز وجل: ﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ﴾ [الجمعة: 8]، فالموت سيأتي عاجلًا أو آجلًا، ولو كان الإنسان في أشد الحصون؛ قال عز وجل: ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ﴾ [النساء: 78].
فطوبى لمن كان للموت ذاكرًا، وله عاملًا، لم تشغله الدنيا عن الاستعداد له.
للسلف أقوال في الموت، جمعت بفضل الله بعضًا منها، أسأل الله أن ينفع بها.
كفى بالموت واعظًا: • كان أبو الدرداء رضي الله عنه إذا رأى جنازة قال: اغدوا فإنا رائحون، وروحوا فإنا غادون، موعظة بليغة، وغفلة سريعة، كفى بالموت واعظًا، يذهب الأول فالأول، ويبقى الآخر لا حلمَ له.
وقال رضي الله عنه: "كفى بالموت واعظًا، وكفى بالدهر مفرقًا، اليوم في الدور، وغدًا في القبور".
• قال الحسن بن عبدالعزيز بن ضابئ رحمه الله: "من لم يردعه القرآن والموت، ثم تناطحت الجبال بين يديه لم يرتدع".
غفلة الإنسان عن الموت: • قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "غفلة الإنسان عن الموت مع أنه لا بد له من العجب، والموجب لها طول الأمل". • قال محمد بن عبدالله بن عيسى الإليبري:
الموتُ في كل حينٍ ينشر الكفنا ونحن في غفلة عما يراد بنا
لا تطمئنَّ إلى الدنيا وزُخرفِها وإن توشحت من أثوابها الحسنا
أين الأحبةُ والجيران ما فعَلوا أين الذين هم كانوا لنا سكَنا
سقاهم الدهر كأسًا غير صافية فصيَّرتهم لأطباق الثرى رهنَا
المنهمك في الدنيا غافل عن ذكر الموت: قال الإمام الغزالي رحمه الله: "اعلم أن المنهك في الدنيا، المكبَّ على غرورها، المحب لشواتها، يغفل قلبه لا محالة عن ذكر الموت فلا يذكره، وإذا ذُكَّر به كرهه، ونفر منه؛ قال الله: ﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الجمعة: 8]، وأما التائب... يكثر من ذكر الموت لينبعث به من قلبه الخوف والخشية، فيفي بتمام التوبة".
الاستعداد للموت: • قال سلمة بن دينار رحمه الله: "كل عمل تكره الموت من أجله، فاتركه، ثم لا يضرك متى مُتَّ".
• قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "الواجب على العبد الاستعداد للموت قبل نزوله بالأعمال الصالحة والمبادرة إلى ذلك".
• قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: "قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتيتَ مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة))، له فوائد: منها: أن يبيت على طهارة؛ لئلا يبغته الموت، فيكون على هيئة كاملة، ويؤخَذ منه الندب إلى الاستعداد للموت بطهارة القلب؛ لأنه أولى من طهارة البدن".
طرق لذكر الموت: قال الإمام الغزالي رحمه الله: "اعلم أن الموت هائل، وخطره عظيم، وغفلة الناس عنه لقلة فكرهم فيه وذكرهم فيه، ومن يذكره، ليس يذكره بقلب فارغ، بل بقلب مشغول بشهوة الدنيا، فلا ينجع ذكر الموت في قلبه، وأنجع طريق فيه أن يكثر ذكر أشكاله وأقرانه الذين مضوا قبله، فيتذكر موتهم، ومصارعهم تحت التراب، ويتذكر صورهم في مناصبهم وأحوالهم، ويتأمل كيف محا التراب الآن حسن صورهم، وكيف تبددت أجزاؤهم في قبورهم.
ومهما تذكر رجل رجلًا، وفصل في قلبه حاله، وكيفية موته، وتذكر نشاطه، وتردده وتأمله للعيش والبقاء، ونسيانه للموت، وانخداعه بمواتاة الأسباب، وركونه إلى القوة والشباب، وميله إلى الضحك واللهو، وغفلته عما بين يديه من الموت الذريع، والهلاك السريع، وأنه كيف كان ينطق وقد أكل الدود لسانه، وكيف كان يضحك وقد أكل التراب أسنانه، وكيف كان يدبر لنفسه ما لا يحتاج إليه في وقت إليه، حتى جاءه الموت في وقت لم يحتسبه، فانكشفت له صورة المَلَكِ، وقرع سمعه النداء، إما: الجنة، وإما: النار، فعند ذلك ينظر في نفسه أنه مثلهم، وغفلته كغفلتهم، وستكون عاقبته كعاقبتهم، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: السعيد من وُعِظ بغيره.
فملازمة هذه الأفكار وأمثالها، مع دخول المقابر، ومشاهدة المرضى، هو الذي يجدد ذكر الموت في القلب، بحيث يصير نُصْبَ عينيه.
ومهما طاب قلبه بشيء من الدنيا، ينبغي أن يتذكر في الحال أنه لا بد له من مفارقته، نظر ابن مطيع إلى داره فأعجبه حسنها، ثم قال: والله لولا الموت لكنت بكِ مسرورًا، ولولا ما نصير إليه من ضيق القبور، لقرت بالدنيا أعيننا، ثم بكى بكاء شديدًا".
إذا ذُكر الموتى فعُدَّ نفسك كأحدهم: • أبصر أبو الدرداء رضي الله عنه رجلًا في جنازة، وهو يقول: من هذا؟ فقال أبو الدرداء: هذا أنت، يقول الله عز وجل: ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾ [الزمر: 30]. وقال رضي الله عنه: "إذا ذكرت الموتى فعُدَّ نفسك كأحدهم".
• عن سعيد بن عامر عن جده عن الحسن رحمهم الله: "كان رجل من المسلمين يبلغه موت أخ من إخوانه، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، كدت والله أن أكون أنا السواد المختطَف، فيزيده بذلك جِدًّا واجتهادًا، فيلبث بذلك ما شاء الله، ثم يبلغه موت الأخ من إخوانه، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، كدت والله أن أكون أنا السواد المختطف، فيزيده الله بذلك جدًّا واجتهادًا، قال: فردد الحسن هذا الكلام غير مرة، فوالله ما زال كذلك حتى مات موتًا كيسًا".
• قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ: "إذا ذكرت الموتى، فاجعل نفسك كأحدهم: فلان رحمه الله، فلان مات، صلينا على جنازة، حضرت عزاء، أين حركة القلوب بالموت؟ لو صحَتِ القلوب، لَما جاء ذكر الموت إلا وقد اضطربت القلوب من خشية الله عز وجل".
نذر الموت: • عن وهب رحمه الله قال: "ينادي منادٍ: أبناء الستين: عدوا أنفسكم في الموتى". • قال سفيان الثوري رحمه الله: "من بلغ سن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليتخذ نفسه كفنًا". • قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "من لم ينذره باقتراب أجله وحيٌ، أنذره الشيب وسَلْبُ أقرانه بالموت".
الإكثار من ذكر الموت: • قال الربيع بن خثيم رحمه الله: "أكثروا ذكر هذا الموت؛ فإنكم لم تذوقوا قبله مثله".
• علي بن الحسين بن المبارك، ما كان لسانه يفتر عن ذكر الموت.
• قال ابن اللباد: "إذا حدث لك فرح بالدنيا، فاذكر الموت، وسرعة الزوال... وإذا اعترتك غفلة فاستغفر، واجعل الموت نصب عينيك".
• قال الإمام ابن حبان رحمه الله: "الواجب على العاقل... لزوم ذكر الموت على الأوقات كلها، وترك الاغترار بالدنيا في الأسباب كلها؛ إذ الموت رحى دوَّارة بين الخلق، وكأس يُدار بها عليهم، لا بد لكل ذي روح أن يشربها، ويذوق طعمها، وهو هادم اللذات، ومنغِّص الشهوات، ومكدِّر الأوقات.
العاقل لا ينسى ذكر شيء هو مترقِّب له، ومنتظر وقوعه، من قدمٍ إلى قدم، فكم من مكرَم في أهله، معظَّم في قومه، مبجَّل في جيرته، لا يخاف الضيق في المعيشة ولا الضنك في المصيبة، إذ ورد عليه مذلل الملوك، وقاهر الجبابرة، وقاصم الطغاة، فألقاه صريعًا بين الأحبة، مفارقًا لأهل بيته وإخوانه، لا يملكون له نفعًا، ولا يستطيعون له دفعًا! فالعاقل لا يغتر بحالة نهايتها تؤدي إلى ما قلنا، ولا يركن إلى عيش مغبته ما ذكرنا، ولا ينسى حالة لا محالة هو مواقعها، وما لا شك يأتيه؛ إذ الموت طالب لا يُعجِزه المقيم، ولا ينفلت منه الهارب.
• قال الإمام الغزالي: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثِروا من ذكر هازم اللذات))؛ ومعناه: نغصوا بذكره اللذات؛ حتى ينقطع ركونكم إليها فتُقبِلوا على الله تعالى".
• قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة ذكر الموت، فقال: ((أكثروا ذكر هادم اللذات))؛ يعني: الموت.
فوائد ذكر الموت: • قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "من أكْثَرَ ذكر الموت قلَّ فرحه، وقل حسده".
• قال كعب الأحبار رضي الله عنه: "من عرف الموت هانت عليه مصائب الدنيا وغمومها".
• قالت صفية رضي الله عنها: "إن امرأة اشتكت إلى عائشة رضي الله عنها قساوة قلبها، فقالت: أكثري من ذكر الموت يرقَّ قلبك، فرق قلبها، فجاءت تشكر عائشة".
• قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: "من أكثر ذكر الموت اجترأ من الدنيا باليسير، إن استشعرت ذكر الموت في ليلك أو نهارك، بُغِّض إليك كل فانٍ، وحُبِّب إليك كل باقٍ... أكثر ذكر الموت، فإن كنت في ضيق من العيش وسَّعه عليك، وإن كنت في سعة من العيش ضيقه عليك".
• قال أحمد بن حنبل: "إذا ذكرت الموت هان عليَّ كل شيء من أمر الدنيا، وإنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل".
• قال الحسن رحمه الله: "ما أكثر عبد ذكر الموت إلا رُؤي ذلك في عمله، ولا طال أملُ عبدٍ قط إلا أساء العمل"،وقال: "فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لبٍّ فرحًا".
• قال ابن عجلان رحمه الله: "من جعل الموت نصب عينيه لم يبالِ بضيق الدنيا ولا بسعتها".
• قال سفيان الثوري رحمه الله: "كفى بكثرة الموت زهدًا في الدنيا ومرغبًا في الآخرة".
• قال الأوزاعي رحمه الله: "من أكثر ذكر الموت كفاه اليسير".
• قال بشر بن الحارث الحافي رحمه الله: "إذا اهتممت لغلاء السعر فاذكر الموت، فإنه يذهب عنك هم الغلاء".
• قال يحيى بن معاذ رحمه الله: "من أكثر ذكر الموت لم يمت قبل أجله، ويدخل عليه ثلاث خِصال من الخير؛ أولها: المبادرة إلى التوبة. الثاني: القناعة برزق يسير. الثالث: النشاط في العبادة".
• قال الإمام الغزالي رحمه الله: "في ذكر الموت ثواب وفضل، فإن المنهمك يستفيد بذكر الموت، التجافي عن الدنيا، إذ ينغص عليه نعيمه، ويكدر عليه صفو لذته.
وذكر الموت يوجب التجافي عن دار الغرور، ويتقاضى الاستعداد للآخرة، والغفلة عن الموت تدعو إلى الانهماك في شهوات الدنيا".
• قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "في الإكثار من ذكر الموت فوائدُ؛ منها: أنه يحث على الاستعداد له قبل نزوله، ويقصر الأمل، ويُرضي بالقليل من الرزق، ويزهِّد في الدنيا، ويرغِّب في الآخرة، ويهون مصائب الدنيا، ويمنع من الأشَرِ والبَطَرِ، والتوسع في لذات الدنيا".
بغتة الموت: قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "الموت يأتي بغتة، فمن يزرع خيرًا يوشك أن يحصد رغبة، ومن يزرع شرًّا يوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع مثلما زرع".
شدة الموت للمؤمن إما أن تكون زيادة في حسناته أو تكفيرًا لسيئاته: قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: "رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بين يديه ركوة... فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه، ويقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكراتٍ))؛ في الحديث أن شدة الموت لا تدل على نقص المرتبة، بل هي للمؤمن، إما زيادة في حسناته، وإما تكفيرًا لسيئاته".
سكرات الموت وشدته: • قال الإمام الغزالي رحمه الله: "اعلم أنه لو لم يكن بين يدي العبد المسكين كربٌ ولا هول ولا عذاب، سوى سكرات الموت بمجردها، لكان جديرًا بأن يفارقه سهوه وغفلته، وحقيقًا بأن يطول فيه فكره، ويعظم له استعداده... وشدة الألم في سكرات الموت لا يعرفها بالحقيقة إلا من ذاقها، والنزع عبارة عن مؤلم نزل بنفس الروح، فاستغرق جميع أجزائه، حتى لم يبقَ جزء من أجزاء الروح المنتشرة في أعماق البدن، إلا وقد حلَّ به الألم، فلا تَسَلْ عن بدن يُجذب من كل عرق من عروقه، ثم يموت كل عضو من أعضائه تدريجيًّا، ولكل عضو سكرة بعد سكرة، وكربة بعد كربة، حتى يبلغ بها الحلقوم... فلا تسأل عن طعم مرارة الموت، وكربه عند ترادف سكراته.
ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان عنده قدح من ماء عند الموت، فجعل يدخل يده في الماء، ثم يمسح به وجهه، ويقول: ((اللهم هوِّن عليَّ سكرات الموت)).
فهذه سكرات الموت على أولياء الله، فما حالنا ونحن المنهمكون في المعاصي؟ • قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "لا شدة يلقاها المؤمن في الدنيا أعظم من شدة الموت، وهي أهون مما بعدها إن لم يكن مصير العبد إلى خير، وإن كان مصيره إلى خير فهي آخر شدة يلقاها".
عدم تغير جسم الميت بعد الموت يدل على صلاح صاحبه: قال العلامة العثيمين رحمه الله: "لو قال قائل: هل فناء الجسم أو بقاؤه دليل على الصلاح؟ فالظاهر أن بقاءه يدل على الصلاح؛ لأنه ما يبقى إلا كرامة؛ لأن الأصل أن الأجسام تأكلها الأرض إلا الأنبياء، فإنهم لا تأكلهم الأرض، وفناؤه لا يدل على أن الإنسان ليس من أهل الخير، لكن بقاء الجسم قد يقع كرامة لبعض أهل الخير".
التقوى تنجي من كرب الموت: • قال قتادة رحمه الله في قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ [الطلاق: 2]، قال: "من الكرب عند الموت".
• قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنه في هذه الآية: "ننجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة".
• قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "من أطاع الله واتقاه وحفِظ حدوده في حياته، تولاه الله عند وفاته، وتوفاه على الإيمان".
قال بعضهم: "كانوا يستحبون أن يكون للمرء خبيئة من عمل صالح، ليكون أهون عليه عند نزول الموت، أو كما قال".
من مات فقد قامت قيامته: •قال المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: "أيها الناس، إنكم تقولون: القيامة، القيامة، وإنه من مات فقد قامت قيامته". •قال عبدالواحد بن الخطاب: سمعت زيادًا النميري، ونحن في جنازة وذكروا القيامة، فقال زياد: "من مات فقد قامت قيامته". •قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: "كانت جماعة تقول: قيامة كل نفس موتها". •قال العلامة عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله: "أنت لا تدري متى تقوم قيامتك... فكل من مات فقد قامت قيامته". مرحبًا بالموت: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، لما أن حضره الموت، قال: "مرحبًا بالموت مرحبًا، زائر مغب، حبيب جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك، فأنا اليوم أرجوك".
الموت خير للمؤمن من الفتنة، ولا يرتاح حتى يموت: • قال الربيع بن خيثم رحمه الله: "ما غائب ينتظره المؤمن خيرًا له من الموت".
• قال الشيخ صالح آل الشيخ: "المؤمن لا يرتاح حتى يموت؛ لأن قلوب العباد عُرْضَةٌ للتقلب والتنقل، واليوم كثرت المغريات والشهوات والشبهات، فقد يصبح العبد مؤمنًا ويمسى غير ذلك، فإذا جاءه الأجل وهو ثابت على الإيمان يحصل له الراحة والاطمئنان، فلا يطمئن المؤمن حتى يلقى الله عز وجل وهو ثابت على إيمانه".
الإنسان يبصر بالموت ما لا يبصره في حال الحياة: قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز محمد آل الشيخ: "الظاهر من قوله سبحانه وتعالى: ﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ ﴾ [ق: 22] أن الإنسان يبصر بالموت ما لا يبصره في حال الحياة، كأن ترى مثلًا: السماء في الليل ظلماء سوداء، وذاك بالحجاب الحاجز على العين، مثلما تدخل غرفة مظلمة، ولا تنظر فيها شيئًا بينما يكون فيها كتاب، ويكون فيها فراش، وفيها كذا وكذا، ولكن العين لا تبصر ما في هذه الغرفة المظلمة؛ لأن حاستها محدودة، لكن لو كُشف ذلك الغطاء، لأبصرت كل ما في الظلام، وهذا هو الذي يحصل بالموت، فإن الإنسان يبصر بالموت الملائكة، ويبصر العذاب، ويبصر النعيم، ونحو ذلك مما يكون بعد الممات، نسأل الله عز وجل لنا ولكم العفو والعافية".
نعيم لا موت فيه: قال مطرف بن عبدالله بن الشِّخِّير رحمه الله: "أفسد الموت على أهل النعيم نعيمهم، فاطلبوا نعيمًا لا موت فيه".
الموت فضح الدنيا: قال الحسن البصري رحمه الله: "إن الموت فضح الدنيا، فلم يترك لذي لُبٍّ فرحًا".
كأس الموت: قال إبراهيم بن الأدهم: "إن للموت كاسًا لا يقوى على تجرعه إلا خائف وجِلٌ طائع كان يتوقعه".
صديق بعد الموت: قال حاتم الأصم: "أردت أن اتخذ صديقًا لي بعد الموت، فصادقت الخير ليكون معي إلى الحساب، ويجوز معي إلى الصراط، ويثبتني بين يدي الله عز وجل".
كراهية الموت: قال جماعة، يا أبا حازم، ما لنا نكره الموت؟ فقال: "عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة، فتكرهون الخروج من العمران إلى الخراب".
لا يجوز الدعاء على النفس بالموت: قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: "لا يحل لأحد أن يدعو على نفسه بالموت؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يتمنَّينَّ أحد منكم الموت لِضُرٍّ نزل به، فإن كان لا بد متمنِّيًا للموت فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي))، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتمنى الإنسان الموت، فكيف بالذي يدعو على نفسه بالموت؟ والواجب على من أُصيب بأمرٍ يضيق به صدره، ويزداد به غمه أن يصبر، ويحتسب الأجر من الله، وينتظر الفرج، فهذه ثلاثة أمور: الصبر، واحتساب الأجر، وانتظار الفرج من الله عز وجل".
تنبيه المحتضر على إحسان الظن بالله تعالى: قال الإمام مسلم رحمه الله: "فيه استحباب تنبيه المحتضر على إحسان ظنه بالله سبحانه وتعالى، وذكر آيات الرجاء، وأحاديث العفو، وتبشيره بما أعده الله تعالى للمسلمين، وذكر حسن أعماله عنده، ليُحْسِنَ ظنَّه بالله تعالى، ويموت عليه".
مفارقة الروح الجسد: قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "مفارقة الجسد للروح لا تقع إلا بعد ألم عظيم تذوقه الروح والجسد جميعًا، فإن الروح قد تعلقت بهذا الجسد وألفِته، واشتدت أُلْفَتُها له وامتزاجها به ودخوله فيه، حتى صارا كالشيء الواحد، فلا يتفارقان إلا بجهد شديد وألم عظيم، ولم يذُق ابن آدم في حياته ألمًا مثله، وإلى ذلك الإشارة بقول الله عز وجل: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ [آل عمران: 185].
نزع الملائكة للأرواح: قال العلامة السعدي رحمه الله: "قوله تعالى: ﴿ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ﴾ [النازعات: 1]؛ وهم: الملائكة، التي تنزع الأرواح بقوة وتغرق في نزعها، حتى تخرج الروح، فتُجازَى بعملها، ﴿ وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ﴾ [النازعات: 2]، وهي الملائكة أيضًا تجتذب الأرواح بقوة ونشاط، أو النشط يكون لأرواح المؤمنين، والنزع لأرواح الكفار".
المحتضر إن رأى ما يسره أحب لقاء الله، وإن رأى ما يكره لم يحب الخروج من الدنيا: قال الإمام ابن عبدالبر رحمه الله: "المرء عند حضور أجله إذا رأى ما يكره، لم يحبَّ الخروج من الدنيا، ولا لقاء الله، لسوءِ ما عايَنَ مما يصير له، وإذا رأى ما يحب، أحب لقاء الله والإسراع إلى رحمته، لحسن ما عاين وبُشِّر به".
استبشار المؤمن عند موته، ونشاط روجه للخروج: قال الإمام القرطبي رحمه الله: "عن ابن عباس قال: أنفُسُ المؤمنين عند الموت تنشط للخروج، وذلك أنه ما مؤمن يحضُره الموت إلا وتُعرض عليه الجنة قبل أن يموت، فيرى فيها ما أعدَّ الله له من أزواجه وأهله من الحور العين، فهم يدعونه، فنفسه إليهم نشطة أن تخرج فتأتيهم".
• قال زيد بن أسلم في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾ [فصلت: 30]، قال: "يبشر بذلك عند موته وفي قبره ويوم يُبعَث، فإنه لفي الجنة، وما ذهبت فرحة البشارة من قلبه".
• قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: "ما يحصُل للمؤمن من البشرى، ومسرة الملائكة بلقائه، ورفقهم به، وفرحه بلقاء ربه، يهوِّن عليه كل ما يحصُل من ألم الموت، حتى يصير كأنه لا يُحِسُّ بشيء من ذلك".
تأسُّف السلف عند موتهم على انقطاع أعمالهم: • بكى معاذ رضي الله عنه عند موته وقال: "إنما أبكى على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلَقِ الذكر".
• بكى عبدالرحمن بن الأسود رحمه الله عند موته وقال: "وا أسفاه على الصوم والصلاة، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات".
• بكى يزيد الرقاشي رحمه الله عند موته، وقال: "أبكي على ما يفوتني من قيام الليل وصيام النهار"، ثم بكى.
• قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "إذا كان المحسن يندم على ترك الزيادة، فكيف يكون حال المسيء؟".
شهوات للصالحين عند موتهم: • الحافظ عبدالغني بن عبدالواحد المقدسي، مرِض مرضًا شديدًا منعه الكلام والقيام، فكان ابنه كثيرًا ما يسأله: ما تشتهي؟ فيقول: أشتهي الجنة، رحمه الله، ولا يزيد على ذلك، وأجابه مرة: أشتهي النظر إلى وجه الله سبحانه.
• إسماعيل بن محمد بن يوسف البرزالي، مرِض بالسل ستة أشهر، وحصل له في المرض إقبال على الطاعة وملازمة الفرائض، حتى كان يصلي إيماء، قال له والده قبل موته بيوم: إيش تريد؟ قال: أشتهي أن يغفر الله لي.
• لما حضرت إبراهيم النخعي الوفاة، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أنتظر من الله رسولًا، يبشرني بالجنة، أو بالنار، ولما حضرت عامر بن عبدالقيس الوفاة، بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: ما أبكي جزعًا من الموت، ولا حرصًا على الدنيا، ولكن أبكي على ما يفوتني من ظمأ الهواجر، وعلى قيام الليل.
سماع بعض المحتضرين عند موته: • لما حضرت بلالًا الوفاة قالت امرأته: وا حزناه، فقال: بل، وا طَرَباه، غدًا نلقى محمدًا وحزبه، وقال المأمون: يا من لا يزول ملكه، ارحم مَن قد زال ملكه.
• لما حضرت معاوية بن سفيان الوفاة، قال: "اللهم أقِلِ العثرة، واغفر الزَّلَّة، وعُدْ بحلمك على من لا يرجو غيرك، ولم يثق بأحد سواك".
• لما احتُضر عمر بن عبدالعزيز قال: اخرجوا عني، فقام مسلمة وفاطمة على الباب، فسمعوه يقول: "مرحبًا بهذه الوجوه ليست بوجوه إنسٍ ولا جانٍّ؛ ثم قال: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ ﴾ [القصص: 83]"، ثم هدأ الصوت، فقال مَسْلَمة لفاطمة: قد قُبض صاحبك، فدخلوا فوجدوه قد قبض.
قال العلامة العثيمين رحمه الله: "قد سمع بعض المحتضرين وهو يحتضر عند الموتيقول: روح ريحان، وجنة نعيم، مما يدل على أنه بُشِّر بذلك، أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم".
تحسر المفرط عند الموت: • قال الحافظ ابن رجب: "ويتزايد الألم بمعرفة المحتضر بأن جسده إذا فارقته الروح صار جيفة مستقذرة، يأكله الهوامُّ، ويبليه التراب، حتى يعود ترابًا، وأن الروح المفارقة له لا تدري أين مستقرها، هل هو في الجنة أو النار؟ فإن كان مصرًّا على المعصية إلى الموت، فربما غلب على ظنه أن روحه تصير إلى النار، فتتضاعف بذلك حسرته وألمه، وربما كُشف له مع ذلك عن مقعده من النار فيراه، أو يبشر بذلك فيجتمع له مع كرب الموت وألمه العظيم معرفته بسوء مصيره؛ وهذا هو المراد بقول الله عز وجل: ﴿ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ﴾ [القيامة: 29]، على ما فسر به كثير من السلف، فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت، فلا تسأل عن سوء حاله، وقد سمى الله تعالى ذلك سكرة؛ لأن ألم الموت مع ما ينضم إليه يُسكِر صاحبه، فيغيب عقله غالبًا؛ قال الله تعالى: ﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ﴾ [ق: 19].
• قال العلامة السعدي رحمه الله: قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ﴾ [المؤمنون: 99]، يخبر تعالى عن حال من حضره الموتى من المفرطين الظالمين أنه يندم في تلك الحال، إذا رأى مآله، وشاهد قبيح أعماله، فيطلب الرجعة إلى الدنيا لا للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها، وإنما ذلك ليقول: ﴿ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ [المؤمنون: 100] من العمل، وفرطت في جنب الله، ﴿ كَلَّا ﴾ [المؤمنون: 100]؛ أي: لا رجعة له ولا إمهال، قد قضى الله أنهم لا يرجعون.
فلينظر العبد لنفسه وقت الإمكان، وليتدارك الممكن قبل ألَّا يمكن.
فائدة: • الخليفة المأمون، قال وهو يُحتضر: "يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه... يا من لا يموت ارحم من يموت، ثم قضى ومات".
• الخليفة المعتصم قال في مرض موته: ﴿ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ﴾ [الأنعام: 44]، وجعل يقول: "ذهبت الحيلة فليس حيلة"، حتى صمت.
• لما احتُضر الواثق، أمر بالبُسط فطُويت، وألصق خده بالأرض، وجعل يقول: "يا من لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه".
موعظة: •قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: "فما أحسنَ حالَ مَن ذكر الموت فعمل لخلاصه قبل الفوت، وأشغل نفسه بخدمة مولاه، وقدَّم من دنياه لأخراه، ورغِب في دار لا يزول نعيمها، ولا يُهان كريمها! عباد الله، اسعوا في فِكاك رقابكم، وأجهدوا أنفسكم في خلاصها قبل أن تزهق، فوالله ما بين أحدكم وبين الندم، والعلم بأنه زلت به القدم، إلا أن يحوم عُقاب المنية عليه، ويفوق سهامها إليه، فإذا الندم لا ينفع، وإذا العذر لا يُسمع، وإذا النصير لا يدفع، وإذا الذي فات لا يُسترجع".
وختامًا، فيقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: "يا من تمر عليه سنة بعد سنة وهو مستثقل في نوم الغفلة والسِّنة، يا من يأتي عليه عام بعد عام وقد غرق في بحر الخطايا، يا من يشاهد الآيات والعِبر كلما توالت عليه الأعوام والشهور... ولا ينتفع بما يسمع ولا بما يرى من عظائم الأمور".
اللهم أيقظنا من غفلتنا، ووفقنا للاستعداد للموت، والعمل له.