الاقتداء بالتابعين رضي الله عنهم
الصحابة رضي الله عنهم هم خير هذه الأمة صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ودافعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسهم وأموالهم، وعاصروا نزول الوحيين، وتلقوا التربية من الأسوة الحسنة صلى الله عليه وسلم، ويليهم في الفضل التابعين لهم بإحسان، ثم أتباع التابعين، فهم أصحاب القرون الأولى المشهود لهم بالخيرية، وقد خصَّهم الله عز وجل بصفاء قلوبهم، وسعة فهمه، وفصاحة ألسنتهم، وغزارة علمهم، وانعدام معارضيهم، حفظوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقواله، وأخبروا عن أفعاله وأحواله، ونقلوها للأمة من بعدهم، ثم اعتنى علماء الأمة بتدوين آثار الصحابة والتابعين رضي الله عنهم.
فضائل التابعين رضي الله عنهم في القرآن الكريم:
وكما أثنى القرآن الكريم على الصحابة رضي الله عنهم، وسجل لهم سبقهم وفضلهم، أثنى كذلك على التابعين لهم بإحسان في العديد من الآيات، منها:
قال الله تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100].
عن محمد بن كعب القرظي[2] قال: "مرَّ عمر رضي الله عنه برجل يقرأ: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ﴾ [التوبة: 100]، فأخذ عمر بيده، فقال: من أقرأك هذا قال: أبي بن كعب قال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه، فلما جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا، قال: نعم، قال: وسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم، قال: لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا، فقال أبي: تصديق ذلك في ... وسورة الأنفال؛ قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 75][3].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فجعل التابعين لهم بإحسان مشاركين لهم فيما ذكر من الرضوان والجنة ... فمن اتبع السابقين الأولين كان منهم"[4].
والتابعين بإحسان هم: "السعداء الذين ثبت لهم رضا الله عنهم وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل من تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة، ولا يختص ذلك بالقرن الذين رأوهم فقط، وإنما خص التابعين بمن رأوا الصحابة تخصيصًا عرفيًّا؛ ليتميزوا به عمن بعدهم، فقيل: التابعون مطلقًا لذلك القرن فقط، وإلا فكل من سلك سبيلهم فهو من التابعين لهم بإحسان، وهو ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه"[5].
ومِن سعة رحمة الله تعالى أنه تعالى يلحق أهل الاتباع بإحسان، بمن سبقوهم بالخير والفضل، ويشركهم في فضله وثوابه، ورضاه عنهم، ورضاهم عن الله تعالى.
وقد خص الله تعالى التابعين بإحسان لإقامة الدين، وحفظ فرائضه وحدوده وأمره ونهيه، وأحكامه وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم، وآثاره فحفظوا عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نشروه وبثوه من الأحكام والسنن والآثار، وسائر ما وصفنا الصحابة به رضي الله عنهم، فأتقنوه وعلموه، وفقهوا فيه، فكانوا من الإسلام والدين ومراعاة أمر الله عز وجل، ونهيه بحيث وضعهم الله عز وجل، ونصبهم له"[6].
فقدم الله تعالى الثناء على الصحابة، ثم أردفهم بالثناء على الذين اتبعوهم بإحسان، والاتباع بإحسان يشمل جميع المسلمين الذين اقتدوا بالصحابة رضي الله عنهم في كل مكان وزمان، فاقتدوا بهم في أقوالهم وأعمالهم طلبًا لمرضاة الله سبحانه وتعالى, أولئك الذين رضي الله عنهم لطاعتهم لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم, ورضوا عنه لما أنعم لهم من جزيل الثواب على طاعتهم وإيمانهم.
وقد امتن الله تعالى على السابقين واللاحقين من أمة الإسلام؛ قال الله تعالى: ﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الجمعة: 3].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ نزلت عليه سورة الجمعة، فلما قرأ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، قال رجل: من هؤلاء؟ يا رسول الله، فلم يراجعه النبي صلى الله عليه وسلم حتى سأله مرة، أو مرتين، أو ثلاثًا، قال: وفينا سلمان الفارسي رضي الله عنه، قَالَ: فَوَضَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ، ثُمَّ قَالَ: « لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا[7]، لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِ»[8].
فالمراد بالإيمان (أحكامه التي ما تنال إلا بالطلب «عِنْدَ الثُّرَيَّا، لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِ»، وهذه الصفة نفسها نجدها في أهل خراسان دخلوا في الإِسلام رغبة، ومنهم العلماء والفضلاء والمحدثون والمتعبدون، وإذا حررت المحدثين من كل بلد، وجدت نصفهم من خراسان، وجل رجالات الرواة منها) [9].
والمقصود بـ﴿ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ﴾؛ أي: (في الفضل، ويحتمل أن يكونوا لما يلحقوا بهم في الزمان، وعلى كل، فكلا المعنيين صحيح، فإن الذين بعث الله فيهم رسوله وشاهدوه وباشروا دعوته، حصل لهم من الخصائص والفضائل ما لا يمكن أحدًا أن يلحقهم فيها، وذلك من فضل الله العظيم الذي يؤتيه من يشاء من عباده" [10].
والأولون هم: "الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبوه، والآخرون: هم الذين لم يلحقوهم، وهم كل من بعدهم على منهاجهم إلى يوم القيامة، فيكون التأخر وعدم اللحاق في الفضل والرتبة بل هم دونهم، فيكون عدم اللحاق في الرتبة والقولان كالمتلازمين، فإن من بعدهم لا يلحقون بهم لا في الفضل ولا في الزمان، فهؤلاء الصنفان هم السعداء"[11].
وقد مدح الله سبحانه وتعالى التابعين بسبب ترحمهم على السابقين، وذكرهم بالخير، وترك ذكرهم بالسوء؛ قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].
فأثنى الله عز وجل على التابعين؛ لأنهم "يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان والمغفرة، ومن كان في قلبه غل على أحد من الصحابة ولم يترحم على جميعهم، فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية؛ لأن الله تعالى رتب المؤمنين على ثلاثة منازل: المهاجرين والأنصار والتابعين الموصوفين بما ذكر، فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة، كان خارجًا من أقسام المؤمنين" [12].
فالآية تبرز أهم ملامح التابعين بإحسان "الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار، سمة نفوسهم أنها تتوجه إلى الله في طلب المغفرة لنفسها، ولسلفها الذين سبقوها بالإيمان، وفي طلب براءة القلب من الغل على المؤمنين على وجه الإطلاق، مع الشعور واليقين برأفة الله ورحمته، هذه قافلة الإيمان تحمل جمال الظاهر وجمال الباطن" [13].
فالآية الكريمة أوضحت منزلة التابعين، وبيَّنت مرتبتهم وشرفهم ووصفتهم بصفات يعرفون بها ومن هذه الصفات، أنهم يستغفرون لأنفسهم ولإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان، ثم يسألون الله تعالى أن يطهر قلوبهم من الحسد والحقد لجميع المؤمنين، ويثنون على الله تعالى بما هو أهله.
فضائل التابعين في السنة النبوية المشرفة:
فقد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة القرون الأولى، وشهد لهم بالخيرية، فعَنْ عَبْدِاللهِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»[14].
فالسابقون الأولون من "المهاجرين والأنصار، ومن سلك مسلكهم فهؤلاء أفضل الأمة وهم المرادون بالحديث"[15].
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَتِ الْأَنْصَارُ: يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم «لِكُلِّ نَبِيٍّ أَتْبَاعٌ وَإِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاكَ، فَادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَ أَتْبَاعَنَا مِنَّا فَدَعَا بِهِ »[16].
أي أن لكل نبي "أتباع، ونحن أتباعك؛ لأنا قد اتبعناك، فادع الله أن يكون أتباعنا منا؛ أي متصلين بنا، مقتفين آثارنا بإحسان؛ كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ}، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل أتباعهم منهم"[17].
أقوال السلف في فضائل التابعين:
قال حجة الإسلام أبو حامد الغزاليرحمه الله: "وأعلم أهل الزمان، وأقربهم للصواب أشبههم بالصحابة رضي الله عنهم، وأعرفهم بطريق السلف، فمنهم أخذ الدين، ولذلك قال علي رضي الله عنه: خيرنا أتبعنا لهذا الدين"[18].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله عن فضل التابعين: "فهذه الطبقة كان لها قوة الحفظ والفهم والفقه في الدين، والبصر والتأويل، ففجرت من النصوص أنهار العلوم واستنبطت منها كنوزها، ورُزقت فيها فهمًا خاصًّا ... وهذا الفهم هو بمنزلة الكلأ والعشب الذي أنبتته الأرض الطيبة، وهو الذي تميزت به هذه الطبقة عن الطبقة الثانية، وهي التي حفظت النصوص فكان همها حفظها وضبطها، فوردها الناس وتلقوها بالقبول، واستنبطوا منها واستخرجوا كنوزها واتجروا فيها، وبذروها في أرض قابلة للزرع والنبات، ورووها كل بحسبه، {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60] [19].
وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: الصحابة رضي الله عنهم فتحوا قلوبهم و"ألقوا إلى التابعين ما تلقوه من مشكاة النبوة خالصًا صافيًا، وكان سندهم فيه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام عن رب العالمين سبحانه وتعالى سندًا صحيحًا عاليًا، وقالوا: هذا عهد نبينا إلينا، وقد عهدنا إليكم، وهذه وصية ربنا وفرضه علينا، وهي وصيته وفرضه عليكم، فجرى التابعون لهم بإحسان على منهاجهم القويم، واقتفوا على آثارهم صراطهم المستقيم، ثم سلك تابعو التابعين هذا المسلك الرشيد"[20].
وقال الإمام الشاطبي[21]رحمه الله: "فالتابعون بإحسان لازموا الصحابة رضي الله عنهم حتى فقهوا، ونالوا ذروة الكمال في العلوم الشرعية، وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالِمًا اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة واشتهر في قرنه بمثل ذلك"[22].
وقال الإمام شهاب الدين أبو شامة[23]رحمه الله: "كان العلماء من السلف الصالح أهل نسك وعبادة وورع وزهادة، أرضوا الله تعالى بعلمهم، وصانوا العلم فصانهم، وتدرَّعوا من الأعمال الصالحة بما زانهم، ولم يشنهم الحرص على الدنيا وخدمة أهلها، بل أقبلوا على طاعة الله التي خلقوا لأجلها"[24].
وعن سعة علم التابعين قال الإمام السيوطي: "من التابعين من تلقى جميع التفسير عن الصحابةرضي الله عنهم"
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|