خاتم النبيين (29)
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فمرحبًا بكم أيها الأفاضل في برنامجكم خاتم النبيِّين، وقد ذكرنا أيها الكِرام في الحلقة السابقة شيئًا من السرايا والبعوث التي أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم لأقوام وقبائل من العرب دعوةً لهم وأيضًا غزوًا لهؤلاء ونحو ذلك، وذيَّلْناها أيضًا بالدروس والعِبَر المستفادة منها، وفي حلقتنا هذه نتعرَّض لأحداث صُلْح الحديبية وما فيه من أحداث ووقائع ودروس وأحكام، والحديبية هي اسم لبئر تقع على بُعْدِ اثنين وعشرين كيلومترًا من الشمال الغربي لمكة، وتُعرَف اليوم بالشميسي، ففي شهر ذي القعدة من العام السادس الهجري أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه أنه يريد العمرة، وأنه رأى في منامه أنه دخل البيت هو وأصحابه رضي الله عنهم محلقين رؤوسهم ومقصرين، فما أنْ سَمِع الصحابة رضي الله عنهم بذلك حتى أسرعوا وتهيَّأوا للخروج معه، وفرحوا بذلك أشدَّ الفرح، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر معه العرب من البوادي ممن أسلموا ليخرجوا معه خشيةَ أن تتعرَّض له قريش ويصدُّونه عن البيت الحرام، فنفر بعضهم وتأخَّر كثيرٌ منهم، وفي هذا يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ [الفتح: 11]، وهم قد تخلَّفُوا عن صحبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى العمرة في عام الحديبية، وقد ظنُّوا أنه سيُهزَم، فاعتذروا بالأموال والأولاد عن الصُّحْبة، والقرآن في هذا العرض يعالج أمراض النفوس والقلوب، ويُعالِج الضعف والانحراف، ثم يُوضِّح القِيَم والحقائق الواقعة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة متوجِّهًا إلى مكة في يوم الاثنين من شهر ذي القعدة من العام السادس للهجرة، ومعه من أزواجه أُمُّ سلمة رضي الله عنها، وخرج معه من أصحابه ألف وأربعمائة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، ومَنْ لحِقَ به أيضًا من الأعراب، ولم يكن معه سلاح إلَّا سلاح المسافر وهي السيوف، وساق معه الهَدْي وعددُها سبعون بدنةً، ومع هذا الهَدْي جَمَل لأبي جهل جاء به ليغيظ به المشركين، وبعث الهَدْي مع ناجية بن جندب الأسلمي، فلما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحليفة صلَّى الظهر، ثم دعا بالهَدْي فقلَّده وأشعرَه- أي: جعل عليه شعارًا ليكون علامةً على أنه هدي- وأحرم بالعمرة ولبَّى، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه بشر بن سفيان عينًا له إلى قريش ليأتيه بخَبَرهم، وأكمل النبي صلى الله عليه وسلم طريقه ومساره إلى مكة حتى إذا كان قريبًا من عسفان أتاه الذي أرسلَه لينظر في خبر قريشٍ وهو عينه، فقال له: إنَّ قريشًا قد جمعوا لك جموعًا من الأحابيش وغيرهم، وهم مقاتلوك وصادُّوك عن المسجد الحرام، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في ذلك وقال: ((أشيروا أيها الناس عليَّ))، فقال أبو بكر: يا رسول الله، خرجت عامدًا لهذا البيت، لا تريد قَتْلَ أحَدٍ ولا حَرْبَ أحدٍ، فتوجَّه له، فمَنْ صدَّنا عنه قاتلناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((امضوا على اسم الله))؛ أخرجه البخاري، فلما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه إلى عسفان اقترب إليه خالد بن الوليد- وذلك قبل إسلامه- في مائتي فارس، فكانوا بين المسلمين وبين القبلة، وفي تلك الحال نزل الوحي بصلاة الخوف وبصفتها، فصلَّى المسلمون صلاةَ الظهر، فلمَّا قُضِيت الصلاة قال المشركون بعضُهم لبعضٍ: لو أصَبْناهم وهم في حال صلاتهم، لكان إتيانًا لهم على غِرَّة؛ ولكن ستأتي عليهم صلاةٌ أخرى- يعنون صلاة العصر- ولنفعل ذلك، فنزلت صفة صلاة الخوف بين الظهر والعصر، وهي قوله تبارك وتعالى: ﴿ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ﴾ [النساء: 102]، فحضرت صلاة العصر، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذوا السلاح في صلاتهم، وهذه هي الصفة المشهورة بحيث إن المأمومين في تلك الحال لا يكونون جميعًا في حال السجود، فيسجد الصَّفُّ الأوَّل ويقوم الصَّفُّ الثاني باتجاه العدوِّ، فهذه أوَّلُ صلاةِ خوفٍ صلَّاها المسلمون، كما ذكر ذلك ابن حجر في فتح الباري، وقد ورد في صلاة الخوف صفات مُتعدِّدة، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم تفادَى الاشتباك مع قريش، فذهب بأصحابه إلى الحديبية عند بئر هناك فيها شيء من الماء، فنزحوها حتى انتهى ماؤها، فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم شِدَّةَ العطش فيهم، وفي ركائبهم، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم سهمًا من كنانته، فأمرهم أن يجعلوه فيه، فما زال البئر يفور بالماء حتى رَوَوا وسقوا ركائبهم؛ رواه البخاري، وأيضًا معجزة أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخاري في كتاب المغازي، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: "عطش الناس يوم الحديبية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة- والركوة هي جلد صغير فيه ماء قليل- فتوضَّأ فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل الناس نحوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما لكم؟))، قالوا: يا رسول الله، ليس عندنا ماء نتوضَّأ منه ولا نشرب إلَّا ما في ركوتك هذه، فقال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يَدَه في الركوة، فجعل الماء يفور بين أصابعه كأمثال العيون، قال جابر رضي الله عنه: فشربنا وتوضَّأنا، فقيل لجابر: كم كنتم يومئذٍ؟ قال: كُنَّا ألفًا وخمسمائة، ولو كُنَّا مئة ألف لكفانا"؛ أخرجه البخاري، وفي الحديبية أصاب المسلمين مطرٌ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يُصلُّوا في رحالهم، وعندما صَلَّى بهم بعد ذلك أقبل عليهم بوجهه، وقال: ((أتدرون ماذا قال ربُّكم؟))، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((قال الله: أصبح من عبادي مؤمنٌ بي، وكافرٌ بي، فأمَّا مَن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته؛ فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأمَّا مَن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذلك كافرٌ بي مؤمِنٌ بالكوكب))؛ متفق عليه.
وفي مكث النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية جاء إليه بديل بن ورقاء وكان من خزاعة، وكانت خزاعة مسالمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له بديل: إنَّ قريشًا صادُّوك عن البيت ومقاتلوك، فأخبره صلى الله عليه وسلم أنهم لم يجيئوا مقاتلين؛ وإنما جاءوا إلى البيت، فمَنْ قاتلنا قاتلناه، فانطلق بديل إلى قريش وأخبرَهم بما قال، فقالوا: والله، لا يدخلها قهرًا وغلبةً وتتحدَّث العرب بذلك، ثم بعد ذلك أرسلت قريش رُسَلَها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للتفاوُض، فأوَّل رسول لهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو مكرز بن حفص، فقد بعثَتْه قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أقبل ورآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((هذا رجل فاجر))، فلما تحدَّث مع النبي صلى الله عليه وسلم ردَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما رَدَّ بديل بن ورقاء، ثم رجع إلى قريش، ثم بعثت قريش رسولًا آخر، وهو الحلس بن علقمة، فلمَّا رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((هذا من قوم يُعظِّمون البُدْن، فابعثوها له))، فبعثوا الهَدْي، واستقبله الناس يُلبُّون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيت، ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل رجع مباشرةً إلى قريش بعد رؤيته البدن وسماعه للتلبية، وقال لهم: رأيت البُدْن قد قُلِّدَتْ، فما أرى أن يُصَدُّوا عن البيت؟ فردُّوا عليه ردًّا سيئًا، فغضب عليهم وسبَّهم، ووعدهم أن ينفر بالأحابيش فلا يقاتلون معهم، ثم ذهب رسول ثالث لقريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عروة بن مسعود قبل أن يسلم، فقال عروة للنبي صلى الله عليه وسلم: أتجمع أوباش الناس وتستأصل بهم بيضتك وأمْر قومِك، ثم ردَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لم يأتِ للحرب، ثم أخذ عروة ينظر في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فما بصق النبي صلى الله عليه وسلم بصاقًا إلَّا كان بيد أحدِهم فدَلَكَ به وجهه وجِلْده، وإذا أمرهم ابتدروا، وإذا توضَّأ اقتتلوا على فضل وضوئه، وإذا تكلَّموا خفضوا أصواتهم، وما كانوا يُحِدُّون النظر إليه؛ تعظيمًا له واجلالًا له، فلَمَّا رجع عروة إلى قريش ذكر لهم ما رأى من ذلك الواقع الجليل في مَحبَّة الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: نردُّه عن البيت في عامِنا هذا، ويرجع من قابل فيدخُل مكة ويطوف بالبيت، أيها الأفاضل الكِرام للحديث بإذن الله تعالى بقية، ونختم حلقتنا هذه بشيءٍ من الدروس والعِبَر؛ لكننا بإذن الله تعالى سنستكمل الحديث عن صلح الحديبية في الحلقة القادمة إن شاء الله عز وجل، فمن الدروس والعِبَر ما يلي:
الدرس الأول: أن رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي نوع من أنواع الوحي؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أنه دخل البيت هو وأصحابه، وإن كانت هذه الرؤى للأنبياء وَحْيًا فهي لغيرهم من المُبشِّرات، يراها المسلم أو تُرى له، وهذه الرُّؤى تنقسم إلى قسمين: الأول: رؤيا ظاهرها الصلاح والارتياح والاطمئنان والسكينة، فهي رؤيا صالحة يسأل عنها الرائي ويحمد الله تبارك وتعالى عليها، ويخبر بها مَنْ يُحِبُّ؛ ولكنه لا يغترُّ بتأويلها، ويسأل الله تعالى الإعانة والسداد ويحمده عليها، وتكون تلك الرؤيا الصالحة مقربةً إلى الله تبارك وتعالى.
النوع الثاني من الرؤى: رؤيا ظاهرها السوء والضيق، فهذه موقف المسلم منها ما يلي: لا يُحدِّث بها أحدًا، ويستعيذ بالله تعالى من الشيطان وشر تلك الرؤيا، وأيضًا كذلك لا يسأل عن تأويلها، ولا يُفكِّر بها، ولا تستولي عليه، فإنه إذا فعل ذلك، فإنها لا تضُرُّه بإذن الله عز وجل؛ حيث إنَّ أحد الصحابة شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يرى الرؤيا السيئة فتُمرِضه أيامًا، فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه لا يخبر بها أحدًا، ويستعيذ بالله من شرِّها والشيطان، فيقول ذلك الصحابي: فعلتُ ذلك، فأذهب الله عني أذاها في حين أن بعض الناس كُلَّما رأى تحدَّث للناس بما رأى، وسأل أيضًا عمَّا رأى سواء كان حسنًا أو سيئًا، وهذا لا شَكَّ أنه منهج جهل وحُمْق.
الدرس الثاني: عندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة إلى مكة عام الحديبية اعتذر أناس بأعذارٍ واهيةٍ يظنُّون أنهم سيسلمون بعدها من العتاب؛ لكن القرآن نزل بعتابهم وفضَحَهم، وهذا يُعطينا معنًى تربويًّا إيمانيًّا بأن المسلم إذا انتدب إلى ما فيه صلاح للإسلام والمسلمين وهو قادر عليه، فليمتثل ذلك الأمر، فهو خيرٌ له من بقائه بعُذْرٍ مكذوبٍ ولا حقيقة له، وهذا يجري مع الحاكم والوالد والصديق والقريب ودائرة العمل، وفي المجال الدعوي ونحوهم، وهذا يكسبه أجرًا وعملًا صالحًا وطاعةً وبرًّا، فإذا صدر من هؤلاء ونحوهم أمْرٌ فيه صلاحٌ، فليُبادر ذلك المأمور، ولا يختلق الأعذار الوهميَّة ما دام قادرًا ومؤثرًا، فليحتسب في ذلك الأجر والثواب عند الله تبارك وتعالى.
الدرس الثالث: رحمة الله تعالى بعباده وحفظه لهم من أعدائهم؛ حيث شرع لهم صلاة الخوف بهذه الصفة المذكورة؛ بحيث يجمعون بين صلاتهم ومراقبة عدوِّهم.
الدرس الرابع: في استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حَثٌّ على الشورى، والاستشارة تكون في جميع الأمور التي تشكل على الإنسان، فالاستشارة هي جَمْع خلاصة عقول الآخرين، وقد يتَّضِح بعد الاستشارة أمورٌ هي غائبةٌ قبل الاستشارة، وهي أيضًا مُهِمَّةٌ، ففي البيع والشراء والبناء وغيرها من شؤون الحياة تكون الاستشارة غايةً في الأهمية، فأنت قبل الاستشارة تعمل بعقل واحد، أما بعدها فتعمل بخلاصة عدد من العقول؛ مما يجعل المشروع أقرب إلى النجاح منه إلى الفشل، فالاستشارة والاستخارة أمرانِ مُهِمَّانِ في هذا الجانب.
الدرس الخامس: في مشروعية صلاة الخوف بيان واضح لأهمية الصلاة وإقامتها جماعة، فهم رضي الله عنهم وهم أمام عدوِّهم مأمورون بأداء الصلاة وأيضًا جماعة، وهذا يُعطينا درسًا أن نُعيدَ حساباتنا مع الصلاة، فهؤلاء صلَّوها وفي وقتها جماعةً وهم أمام العدوِّ، وفي المقابل أناس يُؤخِّرونها وأيضًا فُرادى مع الأمن دون خوف، فسبحان مَن وفَّق هؤلاء المصلِّين وحَرَمَ أولئك المؤخِّرين! وهل يظُنُّ هؤلاء المؤخِّرون لصلاتهم أو يصلُّونها فُرادى، هل يظنُّون أنهم حقَّقُوا بذلك فوزًا دنيويًّا أو أخرويًّا؛ إنما خالفوا نصوصًا كثيرةً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفاتهم من الأجور الشيء الكثير، فخسروا تلك الخُطَى إلى المساجد، وخسروا انتظار الصلاة، وخسروا الجماعة، وخسروا دعوات المسلمين باجتماعهم، وخالفوا نصوصًا من الكِتاب والسُّنَّة صريحةً في حضور الجماعة، وفي المقابل هل ينتظرون بذلك رشدًا في عقولهم أو زكاةً في نفوسِهم أو انسجامًا في حياتهم فلا تستقيم الحياة كما نريد إذا لم تستقِم الصلاة، ولو تأمَّلوا أيضًا أن تلك الصلاة هي أول ما يُحاسَبُون عليه لهرعوا إلى تحقيقها كما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن الله عز وجل يهدي مَنْ يشاء ويضل مَنْ يشاء، وربَّما تسلَّل هذا الخَلَل إلى أولادِهم، فباءوا به؛ حيث إنهم هم الذين ربَّوهم عليه.
الدرس السادس: في أحداث صلح الحديبية معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي من دلائل النبوة، فإن المسلم عندما يقرأ هذه المعجزات يقوى إيمانه، ويزداد ثباتًا على دينه، وكم هو جميل جِدًّا أن نضع لأنفسنا وأولادنا جلسات أسريَّة مع تلك المعجزات؟ تقويةً لهم وتصحيحًا لمفاهيمهم وتعريفًا بنبيِّهم، ونستخرج منها أيضًا الدروس والعِبَر ليعرفوا تلك الدلائل بوضوح.
الدرس السابع: عندما نزل المطر في صُلْح الحديبية أرشدَهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يقولوا: مطرنا بفضل الله ورحمته، وهذا هو المشروع عند نزول المطر مع حسر الرأس ليُصيبه المطر، كما فَعَل النبي صلى الله عليه وسلم، ويشرع أيضًا أن يقول المسلم: اللَّهُمَّ اجعله صَيِّبًا نافعًا، فهذا ممَّا يشرع عند نزول المطر كما يشرع أيضًا كثرة الدعاء، فهو موطِن من مواطِن استجابة الدعاء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثنتانِ لا تردان: الدعاء عند النداء، وعند المطر))؛ حسَّنَه الألباني.
الدرس الثامن: يحسن مقابلة الناس بما يُناسبهم من المحاسن، فعندما أقبل عليهم الحلس رسولًا من قريش، وكان من قوم يحبون البُدْن، أقاموا له البُدْن، فأعجب بذلك، فلتكن مقابلتنا للناس وحديثنا معهم هو بما يناسبهم، وفيما هو من اهتمامهم وبما يعجبهم، إذا كان ذلك من المحاسن والمحامد؛ وذلك تأنيسًا لهم، واستفادة منهم، وتأليفًا لقلوبهم، وتقريبًا أيضًا لنفوسهم، ويظهر الفرق جليًّا واضحًا في فعل ما يضادُّ ذلك، فقد تخبو المجالس ويتسلَّل إليها المَلَل والكَلَل، وهذا مُشاهَد من الواقع.
الدرس التاسع: في تلك الأحداث يظهر حُبُّ الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث أعجب رسول قريش بما يفعله الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمًا له وإجلالًا له، وإن كان هذا حال الصحابة الكِرام مع نبيِّهم في حياته، فلنا بهم أسوةٌ في محبَّتِنا لسُنَّتِه بعد مماته، وتطبيقها والحرص عليها، وتربية أبنائنا عليها، فهي منهجنا مع القرآن في جميع شؤون حياتنا؛ في ديننا ودُنْيانا، فمَنْ حادَ عنهما، فقد ضَلَّ بقدر ذلك الميل والحياد، ومَنْ تمسَّك بهما عاشَ حياةً سعيدةً ومطمئنَّةً؛ سواء مع النفس أو الأقربين أو شرائح المجتمع المختلفة، فلنتعلم تلك السُّنَّة، ومن ذلك حفظ أذكارها فيما يُعرَف بعمل اليوم والليلة لأنفسنا وأولادنا، فلو جعلنا في هذا منهجًا محررًا، لكان خيرًا عظيمًا لأولادنا وأحفادنا، ففي كل أسبوع نوعان من الأذكار يتم تعلُّمُها وتطبيقهما وحفظهما، فسنأتي على كثيرٍ من السُّنَّة في زمن يسير، فاعزم العقد أخي الكريم على تطبيق ذلك مع نفسك وأولادك، لعلَّ الله عز وجل أن يجعل في ذلك الخير العظيم، ثم إنَّ دراسة السيرة هي غاية في الأهمية، فهي اقتداء وعِلْم وعمل وخير عظيم وتعلُّم للشمائل والأحكام الشرعية والآداب والأخلاق وما إلى ذلك، كما أنَّ مَنْ سَلَك ذلك التعلُّم لهذه السيرة فقد سَلَك طريقًا يلتمِسُ فيه عِلْمًا، والحاصل أنَّ اللهَ عَزَّ وجلَّ سيُسَهِّل له طريقًا إلى الجنة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَنْ سَلَكَ طريقًا يلتمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لهُ بِهِ طريقًا إلى الجنة))، ولو كانت قراءتُك في السيرة أو غيرها من العلوم قراءةً يسيرةً ومقتضبةً، وحتى لو كانت صفحةً في كل يوم، فإنك ستقرأ في السنة الكاملة ما لا يقل عن ثلاثمائة وستين صفحةً، وهذا لا شَكَّ أنه رِبْحٌ كبيرٌ، وعِلْمٌ غزيرٌ.
أسأل الله تبارك وتعالى لنا جميعًا الهُدَى والتُّقَى والسَّداد والرَّشاد، اللهُمَّ أوْصِلْنا دارَ السلام بسلام، وعافِنا واعْفُ عَنَّا، واغفر لنا وارحمنا ووالدينا والمسلمين، وصَلَّى الله وسلِّم على سيِّدنا محمدٍ، وعلى آلِهِ وصَحْبِه أجمعين.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|