في قول الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: ((فيصيحُ صيحةً يسمعه كلُّ شيء إلا الثقلين)) ما يدل على أن البهائم تسمع عذاب القبر، بل يُصرِّح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فيقول كما في "
الصحيحين" وفي "
مسند الإمام أحمد": ((إنهم يعذبون عذابًا في قبورهم تسمعه البهائم)).
وفي "صحيح مسلم" عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: "بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط [1] لبني النَّجار على بغلة له، ونحن معه، إذ حادت به[2] فكادت تلقيه، وإذا أَقْبُرٌ ستة أو خمسة أو أربعة، فقال: ((مَن يعرف أصحاب هذه الأقبر؟)) فقال رجل: أنا، قال: فمتى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك، فقال: ((إن هذه الأمة تُبتلى في قبورها، فلولا ألا تدافنوا لدعوتُ الله أن يُسمعَكم من عذاب القبر الذي أسمع منه))، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: ((تَعَوَّذُوا بالله من عذاب النار))، قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار، فقال: ((تَعَوَّذُوا بالله من عذاب القبر)) قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال: ((تَعَوَّذُوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن)) قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال: ((تَعَوَّذُوا بالله من فتنة الدَّجَّال))، قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدَّجَّال".
قال القرطبي رحمه الله في شرح هذا الحديث:
وإنما حادت به البغلة لما سمعت من صوت المعذبين، وإنما لم يسمعه من يعْقِل من الجن والإنس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لولا ألا تدافنوا لدعوتُ الله أن يُسمعَكم من عذاب القبر الذي أسمع منه)).
قال ابن القيم رحمه الله في "كتاب الروح" (ص 72):
ولهذا السبب يذهب الناس بدوابهم إذا مَغَلت[3] إلى قبور اليهود والنصارى والمنافقين، كالإسماعيلية والنصيرية والقرامطة من بني عُبيد وغيرهم الذين بأرض مصر والشام، فإن أصحاب الخيل يقصدون قبورهم لذلك، كما يقصدون قبور اليهود والنصارى، قالوا: فإذا سمعت الخيلُ عذاب القبر أحدث لها ذلك فزعًا وحرارة تذهب بالمغل.
وقد قال أبو محمد عبدالحق الإشبيلي:
حدثني الفقيه أبو الحكم بن برخان، وكان من أهل العلم والعمل رحمه الله أنهم دفنوا ميتًا بقريتهم في شرق إشبيلية، فلما فرغوا من دفنه قعدوا ناحية يتحدثون، ودابة ترعى قريبًا منهم، فإذا بالدابة قد أقبلت مسرعة إلى القبر، فجعلت أُذنها عليه كأنها تسمع، ثم ولَّت فارة كذلك، ثم عادت إلى القبر فجعلت أذنَها عليه كأنها تسمع، ثم ولَّت فارة، فعلت ذلك مرَّة بعد أخرى، قال أبو الحكم رحمه الله: فذكرتُ عذاب القبر، وقولَ النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنهم ليعذَّبون عذابًا تسمعه البهائم))؛ (
الروح: ص 70).
لكن، هنا سؤال يتردد في الأذهان، لماذا ستر الله عنا عذاب القبر؟
والإجابة عن هذا السؤال تظهر في قول الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم: ((لولا ألا تدافنوا لدعوتُ الله أن يُسْمعَكم من عذاب القبر))، فكتم الله تعالى عنَّا عذاب القبر حتى نستطيع أن نتدافن، ولو أسمعنا سبحانه عذاب القبر، ما دفن أحدٌ منا أحدًا، وما استعطنا أن نقترب من القبر؛ فالحمد لله الذي ستر عنا عذاب القبر بلطفه وكرمه لعلمه سبحانه وتعالى بضعفنا، ولو كشف لنا لصعقنا من هوله وشدته.
قال القرطبي في "التذكرة" (ص 163):
"فكتمه الله سبحانه وتعالى عنَّا حتى نتدافن بحكمته الإلهية ولطائفه الربَّانية؛ لغلبة الخوف عند سماعه، فلا نقدر على القرب من القبر للدفن، أو يهلك الحي عند سماعه؛ إذ لا يُطاق سماع شيء من عذاب الله في هذه الدار، لضعف هذه القوى، ألا نرى أنه إذا سمع الناس صعقة الرعد القاصف أو الزلازل الهائلة هلك كثير من الناس، وأين صعقة الرعد من صيحة الذي تضربه الملائكة بمطارق الحديد التي يسمعها كل من يليه؟!
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في "
صحيح البخاري" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((إذا وُضِعت الجنازة، فاحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها! أين تذهبون بها؟! يسمع صوتها كلُّ شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق))، وهذا وهو على رؤوس الرجال، وهي صيحة من غير ضرب ولا هوان، فكيف إذا حلَّ به الخزي والنكال؟! واشتد عليه الضرب والوبال؟!" فنسأل الله معافاته ومغفرته وعفوه ورحمته بِمنِّه؛ اهـ بتصرف.
وصدق القرطبي، فإذا كانت هذه الصيحة على رؤوس الرجال من غير ضرب ولا هوان، فكيف بهذه الصيحة المدوية عندما يضرب المقبور بمطرقة من حديد لو ضرب بها الجبلُ لصار ترابًا؟! وهذه الصيحة كما مرَّ بنا يسمعها جميع الخلائق إلا الثقلين، كما جاء عند الإمام أحمد في "
مسنده" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في حديث طويل، وفيه: ((ثم يقمعُه قمعة بالمِطْراق، فيصيح صيحة يسمعها خلق الله عز وجل كلهم غير الثقلين)).
أيها الأحبَّة:
استعيذوا بالله من عذاب القبر؛ فقد أخرج الإمام مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُعلِّمهم هذا الدعاء كما يُعلِّمهم السورة من القرآن، قولوا: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدَّجَّال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات))".
وكان يدعو بها في آخر التشهد، وكان يقول صلى الله عليه وسلم: ((إذا تشهَّد أحدُكم فليتعوَّذ من أربع: من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدَّجَّال)).
وأخرج الإمام مسلم عن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: "سمعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقول: اللهم متعني[4] بزوجي رسول الله، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال: ((سألتِ اللهَ لآجال مضروبة[5]، وأيام معدودة[6]، وأرزاق مقسومة[7]، لن يُعجِّل شيئًا منها قبل أجله ولا يُؤخِّره، ولو كنتِ سألتِ اللهَ أن يُعيذَكِ من النار، وعذاب القبر كان خيرًا وأفضل[8]))".
أخي الحبيب:
أما علمت أن هذه القبور مليئة ظلمة ووحشة، ولا ينور قبرك ولا يؤنس وحشتك إلا العمل الصالح، فهو جليسك إلى يوم القيامة!
فقد أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "إن امرأة سوداء كانت تَقمُّ المسجد أو شابًّا، ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنها أو عنه، فقالوا: مات، قال: ((أفلا كنتم آذنتُمُوني؟)) قال: فكأنهم صغَّروا أمرها أو أمره، فقال: دلوني على قبره، فدلُّوه، فصلَّى عليها، ثم قال: ((إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل يُنوِّرُها لهم بصلاتي عليهم))".
فاللهم نَوِّر قبورنا،
لكن، كيف وقد ذهب عنا النبي؟! فحيل بيننا وبين أن يُصلِّي علينا؟!
والجواب: ليس لنا إلا أن نعود إلى سنته، ونقتفيَ أثره، ونهتدي بهديه، وهذا هو السبيل لإنارة القبور.
رُوي عن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: أنه كان في جنازة في مقبرة، فرأى قومًا يهربون من الشمس إلى الظلِّ، فأنشد يقول بعد الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم:
مَنْ كانَ حينَ تُصيبُ الشَّمسُ جَبهتَه
أو الغُبارُ يَخاف الشَّين والشَّعَثَا
وَيألَفُ الظِّلَّ كي تَبقى بشَاشَتُه
فسَوف يَسكنُ يومًا راغمًا جَدَثَا
في ظلِّ مقْفرةٍ غَبراءَ مُظلِمَة
يُطيل تَحت الثَّرى في غمِّه اللُّبثَا
تَجهَّزي بجهازٍ تَبلُغين به
يا نفسُ قبل الرَّدى، لم تُخلقي عبثًا
أيها الأحبة:
لمثل هذا اليوم نستعد؛ عملاً بوصية النبي صلى الله عليه وسلم: ((لمثل هذا اليوم فأعدُّوا)).
فقد أخرج الإمام أحمد وابن ماجه عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بصر بجماعة، فقال: ((علام اجتمع هؤلاء؟)) قيل: على قبر يحفرُونه، قال: فبدَر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي أصحابه مسرعًا حتى انتهى إلى القبر فجثَا عليه، يقول البراء رضي الله عنه: فاستقبلته من بين يديه لأنظر ماذا يصنع، فبكى حتى بلَّ الثَّرى من دموعِه، ثم أقبل علينا فقال: ((أي إخواني، لمثل هذا اليوم فأعدوا))؛ (
الصحيحة: 1751)، (
صحيح الجامع: 2659).
فالعاقل هو الذي يستعد لهذه اللحظة، ويسعى أن يُعمِّر بيته الذي فيه مقامه، وكل من لا يستعد لهذه اللحظة فقد فرَّط وضيَّع وليس من العقلاء.
قال عبدالله بن العيزار: "لابن آدم بيتان: بيت على ظهر الأرض، وبيت في بطن الأرض، فعمد إلى الذي على الأرض فزخرفه وزيَّنه، وجعل فيه أبوابًا للشَّمال وأبوابًا للجنوب، وصنع فيه ما يصلحه لشتائه وصيفه، ثم عمد إلى الذي في بطن الأرض فخرَّبه، فأتى عليه آتٍ، فقال: أرأيت هذا الذي أراك قد أصلحته كم تقيم فيه؟ قال: لا أدري (ولعله قليل)، قال: فالذي خرَّبته كم تقيم فيه؟ قال: فيه مقامي، قال: تقر بهذا على نفسك وأنت رجل تعقل؟".
فلتستعد لهذا اليوم من الآن، فمَن دخل القبر أصبح مرهونًا بما قدم، فلا هو إلى دنياه عائد، ولا في حسناته زائد.
سَألتُ الدَّارَ تُخبرني
عن الأحبابِ ما فَعلوا
فَقالت لي: أَقامَ القَو
مُ أيَّامًا وقد رَحلُوا
فَقلتُ: وأين أَطلُبُهم
وأيَّ مَنازل نَزلوا
فَقالت: في القُبور ثووا
رهانًا بالذي فَعلوا
عن مُطرِّف بن عبدالله بن الشِّخِّير قال: "القبر منزل بين الدنيا والآخرة، فمَن نزله بزاد، ارتحل به إلى الآخرة، إنْ خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر".