من هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجاته (أمهات المؤمنين) (4)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
اعلم أخي القارئ وأختي القارئة أنَّ هذا هو اللقاء الرابع الذي نتناول فيه شيئًا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجاته (أمهات المؤمنين).
فالحياة الزوجية مشاركة بين الزوجين رأس مالها المودة والرحمة والطمأنينة والسكينة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نموذجًا عمليًّا يحتذَى به في حسن معاشرة النساء، أذكر منها ما يلي:
إذا هوين شيئًا لا محذور فيه تابعهن عليه:
كان النبي صلى الله عليه وسلم سهلًا لينًا في التعامل مع زوجاته، عن جابر بن عبد الله أن عائشة رضى الله عنها في حجة النبي صلى الله عليه وسلم أهلت بعمرة.. وزاد في الحديث قال: « وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا سَهْلًا، إِذَا هَوِيَتِ الشَّيْءَ تَابَعَهَا عَلَيْهِ»[1].
قال القاضي عياض: « فيه حسن العشرة مع الأزواج ومساعدتهن لاسيما فيما هو من باب الطاعات، وما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الخلق العظيم »[2].
يطيب خاطرهنَّ:
عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنَّا بالبيداء، أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا ألا ترى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبستِ رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء؟! فقالت عائشة فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، فقال أسيد بن الحضير ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر قالت، فبعثنا البعير الذي كنت عليه فأصبنا العقد تحته))[3].
قال النووي: « البيداء وذات الجيش موضعان بين المدينة وخيبر، وأما العقد فهو بكسر العين وهو كل ما يعقد ويعلق في العنق فيسمى عقدًا أو قلادة... وفيه الاعتناء بحفظ حقوق المسلمين وأموالهم وإن قلت ولهذا أقام النبي صلى الله عليه وسلم على التماسه »[4].
وفي الحديث فوائد عظيمة منها: اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين عائشة يطيب خاطرها، ويزيل حزنها بفقد عقدها، ونوم النبي صلى الله عليه وسلم واضعًا رأسه على فخذها دلالة على عظم حبه لها، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماس العقد والبحث عنه، وأقام الناس معه وتأخر الجيش، لما احتبسوا على طلب العقد، فأنزل الله سبحانه الرخصة في التيمم.
يواسيهن ويمسح دموعهن:
عن أنس بن مالك قال: ((كانت صفية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وكان ذلك يومها فأبطأت في المسير، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي وتقول: حملتني على بعير بطيء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح بيديه عينيها ويسكتها...))[5].
كانت أم المؤمنين صفية مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحج، وفي أثناء الطريق برك جملها فبكت، ولما أُخبر صلى الله عليه وسلم جاء إليها ومسح دموعها بيده، وجعلت تزداد بكاء وهو ينهاها، وأمر الناس بالنزول فنزلوا ولم يكن يريد أن ينزل، فنزلوا، مواساة لأم المؤمنين صفية ودعما لعواطفها.
يؤانسهنَّ ويُدللهنَّ:
عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها قالت: (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم، من مكثه عندنا، وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعا، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ إلى التي هو يومها فيبيت عندها)) [6].
في الحديث: بيان حسن خلقه -صلى الله عليه وسلم- وكان يفعل ذلك تأنيسًا لهن، وتطيبًا لقلوبهن؛ حتى ينفصل عنهن إلى التي هو في يومها، ويتركها طيبة القلب[7].
عن عائشة: ((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ)) [8].
قال الصنعاني: " الحديث دليل على أن لمس المرأة وتقبيلها لا ينقض الوضوء، وهذا هو الأصل، والحديث مقرر للأصل"[9].
مساعدتهنَّ وخدمتهنَّ والعمل علي راحتهن:
بلغ من تواضع الرسول صلى الله عليه وسلم وحسن معاشرته لنسائه معاونتهن في البيت وأعماله، عن الأسود، قال: سَأَلتُ عائشة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: ((كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ - تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ - فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ))[10].
قال ابن حجر: «وقد وقع تفسير هذه الخدمة في الشمائل للترمذي من طريق عمرة عن عائشة بلفظ ما كان إلا بشرا من البشر يفلي ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه ولأحمد وبن حبان من رواية عروة عنها يخيط ثوبه ويخصف نعله وزاد بن حبان ويرقع دلوه.... وفيه الترغيب في التواضع وترك التكبر وخدمة الرجل أهله»[11].
وقال المهلب: "هذا من فعله، عليه السلام، على سبيل التواضع وليسن لأمته ذلك، فمن السنة أن يمتهن الإنسان نفسه في بيته فيما يحتاج إليه من أمر دنياه وما يعينه على دينه، وليس الترفه في هذا بمحمود ولا من سبيل الصالحين، وإنما ذلك من سير الأعاجم" [12].
فمن الإحسان إلى الأهل أن يساعد الرجل أهله في شؤون البيت، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد البشر يصبح ويمسي في خدمة أهله، ومما لا شك أن بهذه الأمور تحسن العشرة، وتدوم الصحبة والمودة.
وجملة القول:
إن المعاشرة بالمعروف هي الأصل الذي تقوم عليه العلاقات الزوجية، وهذه المواقف المعبرة، والقصص المؤثرة من تعاملات النبي صلى الله عليه وسلم مع أمهات المؤمنين تدل على أن هذه التعاملات ينبغي الحفاظ عليها والعناية بها؛ حتى تتحقق السعادة الزوجية.
أسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل وغيره خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به جميع المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|