فوائد ومسائل فقهية من غزوة حنين (2)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
1- جواز وطء المسبية بعد الاستبراء، وإن كان لها زوج انفسخ نكاحها بالسبي، فقد سأل الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم في سبي أوطاس، فنزلت الآية: ﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ [النساء: 24] [1].
2- النهي عن قتل النساء والأطفال والشيوخ والأجراء ممن لا يشتركون في القتال ضد المسلمين، روى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر: «أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتِ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَقْتُولَةً، فَأَنكَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَتْلَ النِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ»[2].
وفي سنن أبي داود من حديث رباح بن ربيع قال: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ، فَرَأَى النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى شَيْءٍ، فَبَعَثَ رَجُلًا فَقَالَ: «انْظُرْ عَلَامَ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ؟» فَجَاءَ فَقَالَ: عَلَى امْرَأَةٍ قَتِيلٍ، فَقَالَ: «مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ»، قَالَ: وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَبَعَثَ رَجُلًا فَقَالَ: «قُلْ لِخَالِدٍ لَا يَقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلَا عَسِيفًا»[3]. والعسيف: الأجير.
قال ابن حجر رحمه الله: «وخالد أول مشاهده مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح، وفي ذلك العام كانت غزوة حنين، ومفهوم الحديث السابق أنها لو قاتلت لقتلت، واتفق الجميع كما نقل ابن بطال وغيره على منع القصد إلى قتل النساء والولدان، أما النساء فلضعفهن، وأما الولدان فلقصورهم عن فعل الكفر، ولما في استبقائهم جميعًا من الانتفاع بهم، إما برق أو بالفداء فيمن يجوز أن يُفادى به»[4].أهـ
3- في قول بعض الصحابة عندما خرجوا إلى حنين ومروا بسدرة يعكف[5] عليها المشركون وينوطون بها أسلحتهم، يُقال لها ذات أنواط، فقالوا: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، قال الشيخ صالح الفوزان: «فيه بطلان التبرك بالأشجار، والأحجار، وأنه شرك؛ لأن موسى عليه السلام قال: ﴿ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا ﴾ [الأعراف: 140]، فدل على أن من يتبرك بشجر أو حجر فقد اتخذه إلهًا، وهذا هو الشرك، واختلاف اللفظ لا يؤثر مع اتفاق المعنى، هؤلاء قالوا: «اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط» وبنو إسرائيل قالوا: ﴿ اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ ﴾ [الأعراف: 138] والرسول جعل هذا مثل هذا، وإن اختلف اللفظ.
أما قول عبدة القبور عن عبادتهم للقبور، هذا ليس بشرك، هذا توسل، حمية للأولياء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»[6]. فدل على أن تعظيم القبور والتبرك بها يجعلها أوثانًا تعبد من دون الله، فالعبرة في المعاني لا في الألفاظ، فاختلاف الألفاظ لا يؤثر، وإن سموه توسلًا، أو سموه إظهارًا لشرف الصالحين، أو وفاء بحقهم علينا، كما يقولون: هذا هو الشرك، سواء بسواء، فالذي يتبرك بالحجر أو الشجر أو بالقبر قد اتخذه إلهًا، وإن كان يزعم أنه ليس بإله، فالأسماء لا تغير الحقائق»[7].
4- أن حسن المقاصد لا تغير من الحكم الشرعي شيئًا، هؤلاء لهم مقصد حسن، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبر مقاصدهم، بل أنكر هذا، كما قال ابن مسعود: «كم من مريد للخير لم يصبه»[8].
5- خطورة التشبه بالكفار والمشركين؛ لأنها تؤدي إلى الشرك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «لَتَتْبعُنَّ سَنَنَ الْذِينَ مَنْ قَبْلَكُمْ»[9]. ففي الحديث التحذير من التشبه بالمشركين والكفار في أفعالهم، وعاداتهم الخاصة، وتقاليدهم وطقوسهم»[10].
6- فيه مشروعية الخطبة عند الأمر الذي يحدث سواء كان خاصًّا أم عامًّا[11]، «ولقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبة بليغة، ما سمع في باب الاسترضاء أروع من هذه الخطبة البليغة الجامعة بين الحق والصراحة والرقة والاستعطاف»[12].
7- «ترتيب النبي صلى الله عليه وسلم للخطبة ترتيبًا بليغًا، وقد أُوتي جوامع الكلم، فبدأ بنعمة الإيمان التي لا يوازيها شيء من أمر الدنيا، وثنى بنعمة الألفة وهي أعظم من نعمة المال؛ لأن الأموال تبذل في تحصيلها وقد لا تحصل، وقد كانت الأنصار قبل الهجرة في غاية التنافر والتقاطع لما وقع بينهم من حرب بعاث وغيرها، فزال ذلك كله بالإسلام، كما قال تعالى: ﴿ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾ [الأنفال: 63].
8- إقامة الحجة على الخصم وإفحامه بالحق عند الحاجة إليه.
9- حسن أدب الأنصار في تركهم المماراة والمبالغة في الحياء.
10- فيه مناقب عظيمة لهم لما اشتمل على ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم البالغ عليهم، وأن الكبير ينبه الصغير على ما يغفل عنه، ويوضح له وجه الشبهة ليرجع إلى الحق.
11- المعاتبة واستعطاف المعاتب وإعتابه عن عتبه بإقامة حجة من عتب عليه والاعتذار والاعتراف.
12- فيه علم من أعلام النبوة لقوله: «ستلقون بعدي»، فكان كما قال.
13- وفيه أن من طلب حقه من الدنيا لا عتب عليه في ذلك.
14- جواز تخصيص بعض المخاطبين في الخطبة.
15- تسلية من فاته شيء من الدنيا مما حصل له من ثواب الآخرة، والحض على طلب الهداية والألفة والغنى، وأن المنة لله ورسوله على الإطلاق، وتقديم جانب الآخرة على الدنيا، والصبر عما فات منها ليدخر ذلك لصاحبه في الآخرة، والآخرة خير وأبقى»[13].
16- قال ابن حجر: «قال ابن القيم: اقتضت حكمة الله أن فتح مكة كان سببًا لدخول كثير من قبائل العرب في الإسلام، وكانوا يقولون: دعوه وقومه، فإن غلبهم دخلنا في دينه، وإن غلبوه كفونا أمره، فلما فتح الله عليه استمر بعضهم على ضلاله، فجمعوا له وتأهبوا لحربه، وكان من الحكمة في ذلك أن يظهر أن الله نصر رسوله لا بكثرة من دخل في دينه من القبائل، ولا بانكفاف قومه عن قتاله»[14].
17- «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمَّر عثمان بن أبي العاص على الطائف، أمره أن يبني مسجدًا محل طواغيتهم، وهذا يدل على جواز جعل الكنائس والبيع وأمكنة الأصنام مساجد، وكذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم حينما فتحوا البلاد»[15].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فأما أماكن الكفر والمعاصي التي لم يكن فيها عذاب، فإذا جعلت مكانًا للإيمان أو الطاعة فهذا حسن، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف أن يجعلوا المسجد مكان طواغيتهم، وأمر أهل اليمامة أن يتخذوا المسجد مكان بيعة كانت عندهم[16].
18- «ركوبه صلى الله عليه وسلم البغلة في ذلك الموطن مبالغة في الثبات والصبر، ويدل على العزم على عدم الفرار، كما قد فعل حين انهزم الناس عنه وهو مقبل على العدو، يركض ببغلته نحوهم، وقد زاد على ذلك كما ذكر في الرواية الأخرى، أنه نزل بالأرض على عادة الشجعان في المنازلة، وهذا كله يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان أشجع الناس وأثبتهم في الحرب؛ ولذلك قال الصحابة رضي الله عنهم: إن الشجاع منا للذي يلوذ بجانبه»[17].
19- أن الغاية هي إسلام الناس وليس الغنائم والمكاسب المالية، فالرسول صلى الله عليه وسلم يعد زعيم الطائف إن أسلم أن يرد عليه أهله وماله ومائة من الإبل مكافأة له، وترغيبًا له للدخول في الإسلام، ليبين له الرسول صلى الله عليه وسلم مدى الحرص عليه وعلى إسلامه، وأن لا رغبة في استرقاق أهله ومصادرة ماله.
20- التشديد في النهي عن الغلول، فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أم حبيبة بنت العرباض عن أبيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذ الوبرة من فيء الله ﮎ فيقول: «مَا لِي مِنْ هَذَا إلَّا مِثْلَ مَا لِأَحَدِكُمْ إلَّا الْخُمُسَ، وهُوَ مَرْدُودٌ فِيكُمْ، فَأَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ فَمَا فَوْقَهُمَا، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُولَ، فَإِنَّهُ عَارٌ وَشَنَارٌ عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[18].
21- شجاعة أم سليم، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه أن أم سليم رضي الله عنها اتخذت يوم حنين خنجرًا، فكان معها، فرآها أبو طلحة، فقال: يا رسول الله! هذه أم سليم معها خنجر، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا هَذَا الخِنْجَرُ»، قالت: اتخذته، إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، قالت: يا رسول الله: اقتل من بعدنا من الطلقاء انهزموا بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ كَفَى وَأَحْسَنَ»[19].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|