تفسير قوله تعالى: ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ ل
قوله تعالى: ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾[البقرة: 138].
أبطل الله عز وجل دعوى اليهود والنصارى أن الهداية فيما هم عليه، وأمر باتباع ملة إبراهيم وهي الإيمان بما أنزل إلينا، وما أنزل على جميع الرسل والأنبياء، ثم أكد ذلك بقوله تعالى في هذه الآية: ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾.
قوله: ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ ﴾ ﴿ صِبْغَةَ ﴾: مصدر، أي: صبغنا الله صبغة، أو صُبغنا صبغة الله، وهذا أقوى تناسباً مع قوله بعده: ﴿ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾.
وقيل: ﴿ صِبْغَةَ ﴾ منصوب على الإغراء، أي: الزموا صبغة الله، ولا يبعدنكم هؤلاء عن دينكم، و"صبغة" مضاف، ولفظ الجلالة "الله" مضاف إليه.
والصبغة في الأصل: اللون، والمراد بـ ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ ﴾: دين الله.
وسمي الدين صبغة لظهور أثره على المؤمن في سلوكه وأخلاقه؛ إخلاصاً لله عز وجل، ومتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، بل ولظهور أثره على أسارير وصفحات وجه المؤمن، فهو بمنزلة الصبغ للثوب.
وأيضاً سُمي الدين صبغة للزومه كلزوم الصبغ للثوب، فمن دخل فيه لا يكاد ينفك عنه أو يفارقه بتوفيق الله، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما. "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه منه كما يكره أن يقذف في النار"[1].
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ﴾ الاستفهام للنفي والإنكار، ومجيء النفي بصيغة الاستفهام أبلغ من النفي المجرد لتضمنه التحدي، أي: لا أحد أحسن من الله صبغة، أي: لا دين أحسن من دين الله تعالى.
وهذا ابتهاج من المؤمنين بهذه الصبغة، وبهذا الدين الذي فاق جميع الأديان كمالاً كما قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ [المائدة: 3]، وشمولاً كما قال تعالى: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38]، وخلوداً، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، وصدقاً وعدلاً، كما قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا ﴾ [الأنعام: 115]، أي: صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام، وعدم اختلاف، كما قال تعالى: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].
وفرق شاسع وبون واسع بين من آمن بالله عز وجل فهو يسير في هذه الحياة على نور من الله في جميع أعماله وأقواله وأخلاقه، وبين من كفر بالله فصار يسير على غير هدى، كما قال تعالى ﴿ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الملك: 22]، وقال تعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 122].
وقال تعالى: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 125].
﴿ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾الواو: عاطفة، والضمير "نحن" يعود على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين و﴿ لَهُ ﴾ جار ومجرور متعلق بـ﴿ عَابِدُونَ ﴾، وقدم عليه؛ لإفادة الحصر، مع مراعاة الفواصل، أي: ونحن له وحده عابدون.
وفي قول المؤمنين: ﴿ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾ ما يوحي بفخرهم واعتزازهم وتشرفهم بعبادة الله عز وجل وحده شكراً له؛ لأن عبادته أشرف ما يمكن أن يتصف به العبد.
فكأنهم يقولون: ونحن له وحده عابدون ونفتخر ونعتز بذلك ونتشرف به، فالشرف كل الشرف والفخر كل الفخر والعز كل العز بعبادة الله وحده، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13].
أما على القول بأن قوله: ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ ﴾ منصوب على الإغراء تكون جملة ﴿ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾جارية مجرى التعليل له.
المصدر: «عون الرحمن في تفسير القرآن»
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|