هوية الدولة وإستراتيجيتها في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم
في بداية تشكيل الدولة، يكون من الضرورة بمكان أن تعلن تلك الدولة عن هويتها التي ستمثل مسارها المستقبلي، وكذلك هي تحتاج إلى إرساء قواعد اقتصاد رصين من أجل توفير عوامل الإنتاج المختلفة، وهذا ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكانت الأعمال الاستراتيجية في مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتي مثلت عاصمة الدولة الإسلامية، في اتجاهين:
أولاً: المسجد هوية الدولة:
بناء المسجد النبوي كان أول عمل قام به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما إن وطئت رجله المدينة، فلقد تظافرت كل الجهود المخلصة من أجل بنائه، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كان موضع مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - لبني النجار، وكان فيه النخل وقبور المشركين، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ثامنوني به"، فقالوا: لا نأخذ له ثمناً، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبنيه وهم يناولونه، وهو يقول: ألا إنّ العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل أن يُبنى المسجد، حيث أدركته الصلاة"[1].
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "كنا نحمل لبنة وعمار - بن ياسر - لبنتين لبنتين، فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجعل ينفض التراب عن رأسه ويقول: "يا عمار، ألا تحمل ما يحمل أصحابك؟"، قال: إني أريد الأجر من الله، فجعل ينفض التراب عنه"[2].
ولم يكن بناء المسجد عملاً روتينياً، أو إنه لأغراض العبادات التوقيفية فقط، ولكن كان وراء ذلك قراءة سياسية كبيرة، تحمل رسالة مهمة وهي:
1- التأكيد على أن المسجد هو المكان الذي سيمارس رئيس الدولة مهامه انطلاقاً منه، إضافة للشعائر الدينية، بمعنى أنَّ السياسة جزء من الدين ولا فصل بينهما، وهذه هي هوية الدولة الإسلامية الجديدة، ولو كان الأمر غير ذلك لبنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت الإمارة بشكل مستقل عن المسجد.
2- إن هذه الدولة لها أساس يقوم على منهج يعتبر العلاقة مع الله - سبحانه وتعالى - هي الأصل في كل شيء في السياسة وغيرها، وستسير على منهج الله - سبحانه وتعالى -، ثم تأتي بقية الأشياء بل وترتبط بها، وتجلى ذلك بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا عيش إلا عيش الآخرة".
3- ممارسة مجموعة من النشاطات المختلفة في المسجد من أجل ترسيخ مفهوم (الدولة الدينية المدنية المتحضرة)، فمن تلك النشاطات التي مورست في المسجد:
• نشاطات سياسية؛ وذلك باستقبال الوفود الزائرة، والتفاوض معهم في شتى الأمور كالصلح والحرب والأسرى، وعقد الاتفاقات الناتجة عنها، وكذلك مناقشة أمور الدولة الأخرى.
• نشاطات عسكرية: وذلك بعقد مجالس الحرب قبل أي غزوة يغزوها المسلمون.
• نشاطات اجتماعية: كوجود أهل الصفة من الفقراء الذين ليس لهم مأوى أو مال[3]، وكذلك تواجد الأحباش أحياناً من أجل أداء بعض العروض الترفيهية[4].
• نشاطات تربوية: حيث يتم تعليم من يجهل من كافة أمور العلم الشرعي وغيره.
• كان المسجد بمثابة دار القضاء، حيث ينظر في القضاء بين المتخاصمين فيه[5].
4- تكريم الأنصار تكريماً يليق بهم، حيث أنَّ ظهور رمز ديني جديد مثل (المسجد النبوي) على أرضهم، وكونه المكان الثاني في الترتيب بعد الكعبة المشرفة من حيث الشرف والأجر والمكانة، فذلك يعني أن من بذلوا من أجله الغالي والنفيس لم ينسهم وهو على العهد الذي قطعه لهم.
5- ومثلما كان (المسجد النبوي) رمزاً للأنصار وبُني على أرضهم، فلقد كان للمهاجرين أيضاً تعويضاً عما فقدوه في مكة، فالعيش في جوار الكعبة لا يعدله شيء.
6- هذا كله حين يُبنى المسجد أصلاً للأغراض التي ذكرت وحين يساهم في بناء وتطور الدولة الإسلامية، أما حين يكون بناء المسجد للتفريق وبث الفتن ونصب الكمائن لرعايا الدولة الإسلامية والتآمر على الدولة الإسلامية، فيكون الإجراء المتخذ يتلاءم مع حجم الكيد الذي من أجله بني ذلك المسجد، وقصة المسجد الضرار في القرآن الكريم شاهد على كلامنا، فقد بنى أبو عامر الراهب وجماعته من المنافقين مسجداً قرب مسجد قباء ليترصدوا المؤمنين و بالتعاون مع رئيس الدولة الرومية، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [التوبة: 107].
ثانياً: استقلال الاقتصاد:
كان النشاط الاقتصادي من الأنشطة القليلة جداً التي لم يَسمح رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - بممارسته في المسجد، والسبب في ذلك أن النشاط التجاري يمارسه من هب ودب، وعمليات البيع والشراء والصفقات التجارية المختلفة تجري على طول الوقت، فحين تمارس في المسجد فإنها ستقلل من هيبته وقدسيته كونه بيتاً للخالق - سبحانه وتعالى -، وستشغل من فيه عن ما جاء من أجله، وسيكون ساحة للصراع بين الدنيا والدين.
ولقد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رؤية سياسية أبعد من ذلك، فعاصمته المدينة المنورة يوم دَخَلَها - صلى الله عليه وسلم - كان يسيطر على اقتصادها ومواردها اليهود، فالمزارع والمياه والحرف بيد اليهود، والسوق الوحيد في المدينة هو سوق يهود بني قينقاع، وكانوا لا يسمحون بدخول المسلمين إلا بدفع خراج لليهود، فالدورة الاقتصادية في قبضتهم، وهم من يتحكم بالأسعار ومن غير ضوابط منصوص عليها، وهذا يعني أن مقدرات الشعب المسلم في خطر، فلو تعرضت الدولة الإسلامية للخطر الخارجي ولعب اليهود لعبتهم كعادتهم لأصبح المسلمون في موقف لا يحسدون عليه، فلذلك اتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجموعة من الإجراءات الاقتصادية المهمة بهذا الاتجاه منها:
• قرار بناء سوق خاص للمسلمين، حيث "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ذهب إلى سوق النبيط[6]، فنظر إليه، فقال: " ليس هذا لكم بسوق "، ثم ذهب إلى سوق فنظر إليه، فقال: " ليس هذا لكم بسوق "، ثم رجع إلى هذا السوق فطاف فيه، ثم قال: " هذا سوقكم، فلا ينتقصن، ولا يضربن عليه خراج "[7].
• وضع قوانين وإجراءات وأنظمة للعمل التجاري في السوق، ومن ذلك طرق التعامل مع الأسعار، وأنواع وأساليب البيع والشراء، وما يجوز بيعه ومالا يجوز، وكيفية دفع أثمان السلع... الخ.
• البئر الوحيد ذو الماء العذب في المدينة هو بئر رومة، وكان البئر يملكه يهودي يبيع الماء للمسلمين، وكانت الدولة الإسلامية فتية لا تملك المزيد من الأموال المخصصة لهذه المشاريع رغم أهميتها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من يشتري بئر رومة فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة"[8].
ولقد اشترى البئر عثمان بن عفان - رضي الله عنه - من اليهودي، ودفع تكاليف شرائه لوحده وأوقفها لمواطني الدولة الإسلامية.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|