حديث: قضى بالشفعة في كل مال لم يقسم
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: جعل - وفي لفظ: قضى - النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل مال لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق، فلا شفعة.
الشفعة ثابتة بالسنة والإجماع، وهي استحقاق الإنسان انتزاع حصة شريكه من يد مشتريها، ولا يحل الاحتيال لإسقاطها، والحكمة في مشروعيتها رفع الضرر.
قوله: (جعل وفي لفظ: قضى)، وفي رواية: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل مال لم يقسم واللفظ الثاني: قضى.
قال الحافظ: (قوله: كل ما لم يقسم، أو كل مال لم يقسم، واللفظ الأول يشعر باختصاص الشفعة بما يكون قابلًا للقسمة بخلاف الثاني، قوله: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق، فلا شفعة"؛ أي: بينت مصارف الطرق وشوارعها، كأنه من التصرف أو من التصريف، وقال ابن مالك: معناه خلصت وبانت، وهو مشتق من الصرف بكسر المهملة الخالص من كل شيء، وهذا الحديث أصل في ثبوت الشفعة، وقد أخرجه مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر بلفظ: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شرك لم يقسم ربعة، أو حائط لا يحل له أن يبيع؛ حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإذا باع ولم يؤد له، فهو أحق به، وقد تضمن هذا الحديث ثبوت الشفعة في المثال وصدره يشعر بثبوتها في المنقولات وسياقه يشعر باختصاصها بالعقار، وبما فيه العقار، وقد أخذ بعمومها في كل شيء مالك في رواية، وهو قول عطاء، وعن أحمد تثبت في الحيوانات دون غيرها من المنقولات، وروى البيهقي من حديث ابن عباس مرفوعًا: الشفعة في كل شيء، ورجاله ثقات إلا أنه أُعل بالإرسال، وأخرج الطحاوي له شاهدًا من حديث جابر، بإسناد لا بأس برواته.
قال الحافظ: واستدل به على عدم دخول الشفعة فيما لا يقبل القسمة، وعلى ثبوتها لكل شريك)[1].
قال ابن دقيق العيد: استدل بالحديث على سقوط الشفعة للجار من وجهين:
أحدهما: المفهوم فإن قوله: "جعل الشفعة فيما لم يقسم"، يقتضي: أنْ لا شفعة فيما قسم، وقد ورد في بعض الروايات: "إنما الشفعة"، وهو أقوى في الدلالة، ولا سيما إذا جعلنا إنما دالة على الحصر بالوضع دون المفهوم.
والوجه الثاني: قوله: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق، فلا شفعة"، وهذا اللفظ الثاني يقتضي ترتيب الحكم على مجموع أمرين: وقوع الحدود، وصرف الطرق قال ابن بطال: هو جائز في كل شيء مشاع وهو كبيعه من الأجنبي، فإن باعه من الأجنبي فللشريك الشفعة، وإن باعه من الشريك ارتفعت الشفعة[2].
وقال البخاري: باب عرض الشفعة على صاحبها قبل البيع، وقال الحكم: إذا أذن له قبل البيع فلا شفعة له، وقال الشعبي: من بيعت شفعته وهو شاهد لا يغيرها، فلا شفعة له، حدثنا المكي بن إبراهيم، أخبرنا ابن جريج، أخبرني إبراهيم بن ميسرة، عن عمرو بن الشريد، قال: وقفت على سعد بن أبي وقاص، فجاء المسور بن مخرمة، فوضع يده على إحدى منكبي؛ إذ جاء أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا سعد، ابتع مني بيتي في دارك، فقال سعد: والله ما أبتاعهما، فقال المسور: والله لتبتاعنَّهما، فقال: سعد، والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة، أو مقطعة، قال أبو رافع: لقد أعطيت بها خمسمائة دينار، ولولا أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الجار أحق بسقبه، ما أعطيتكها بأربعة آلاف، وأنا أُعطى بها خمسمائة دينار، فأعطاها إياه[3].
قال الحافظ: قوله: الجار أحق بسببه بفتح المهملة والقاف بعدها موحدة، والسبب بالسين المهملة وبالصاد أيضًا، ويجوز فتح القاف وإسكانها: القرب والملاصقة، ووقع في حديث جابر عند الترمذي: الجار أحق بسببه، ينتظر به إذا كان غائبًا إذا كان طريقهما واحد)[4].
قال في الاختيارات:
وتثبت في كل عقار يقبل قسمة الأخبار باتفاق الأئمة، وإن لم يقبلها، فروايتان: الصواب الثبوت، وهو مذهب أبي حنيفة، واختيار ابن سريح من الشافعية، وابن الوفاء من أصحابنا، وتثبت شفعة الجوار مع الشركة في حق من حقوق الملك، من طريق أو ماء، أو نحو ذلك، ونص عليه أحمد في رواية أبي طالب في الطريق، ولا يجب على المشتري أن يسلم الشِّقص المشفوع بالثمن الذي تراضيَا عليه في الباطن إذا طالبه الشريك، وإذا حابَ البائع المشتري بالثمن محاباة خارجة عن العادة، يتوجه ألا يكون للمشتري أخذه إلا بالقيمة، أو أنْ لا شفعة له، فإن المحاباة بمنزلة الهبة من بعض الوجوه، ولا شفعة في بيع الخيار إذا نقص؛ نص عليه أحمد في رواية حنبل، قال القاضي: لأن أخذ الشفيع بالشفعة يسقط حق البائع من الخيار، فلم يجز له المطالبة بالشفعة، وهذا التعليل من القاضي يقتضي أن الخيار إذا كان للمشتري وحده، فللشفيع الأخذ، كما يجوز للمشتري أن يتصرف فيه في هذا الموضع، وأولى مذهب الأمام أحمد أنه لا شفعة لكافر على مسلم، وقد يفرق بين أن يكون الشخص لمسلم، فلا تجب الشفعة، أو لذمي فتجب، وحينئذ فهل العبرة بالبائع أو المشتري أو كلاهما أو أحدهما، أربع احتمالات[5]؛ انتهى.
وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والدُّور؛ رواه عبدالله بن أحمد في المسند، قال المجد: ويحتج بعمومه من أثبتها للشريك فيما تضره القسمة؛ انتهى، وقال الخرقي: وللصغير إذا كبر المطالبة بالشفعة، وقال ابن حامد: إن شركها الولي لحظ الصبي، أو لأنه ليس للصبي ما يتخذها به، سقطت، قال في حاشية المقنع: وهو ظاهر مذهب الشافعي، واختاره الشيخ تقي الدين[6].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|