اليتم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، وأرسل رسله بالهدى ودين الحق لئلاَّ يكون للناس على الله حُجَّة بعد الرسل، فاصطفى أنبياءه ورسله، وجعلهم صفوة الخلق وخيرتهم، ثم خصَّ آخر الأمم بخير الرسل، وأحبهم إليه صلى الله عليه وسلم.
وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين، وخير الخلق أجمعين، صلى عليك اللهُ يا عَلَم الهدى ما هبت نسائم، وناحت عليك حمائم، بلَّغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة فكشف الله بك الغمة وتركتها على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها ما يزيغ عنها إلاَّ هالك.
أمَّا بعد: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]؛ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
أيها الأحبة الكرام .. حديثي إليكم اليوم عن اليُتم في حياة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فقد اختار الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يُولد يتيم الأب، حيث مات أبوه عبد الله، وهو جنين في بطن أمه، وتزوج عبد الله من آمنة بنت وهب بن عبد مناف، فبنى بها في مكة، وبعد قليل أرسله عبد المطلب يمتار لهم تمراً من المدينة، فمات بها، وكانت وفاته قبل أن يُولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر: الرحيق المختوم، (ص 58).
نعم إخوتاه، مات أبوه، فلم يره، وآه ثم آه ممن مات أبوه، فعاش يتيماً، يزهد فيه الناس ويتوارون عنه، حتى المرضعات اللاتي يأتين من البادية كلهن زهدن فيه لَمَّا علمن يتمه، ولم تأخذه إلاَّ حليمة مرغمة إذ لم تجد غيره، وكم هو قاس على قلب طفل صغير أن يُحرم من كلمة "أبي" مثل أقرانه، وأن يُحرم من عطف الأب وحنانه.
ولكن لا يقف الأمر عند هذا الحد، إذ يتعرض النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لنوعٍ آخَر أشد وأقسى من اليتم، ولكن هذه المرة يفقد أمه آمنة، فتموت أمه وهو طفل لم يتجاوز السادسة من عمره، نعم، تموت نبع الحنان ومصدره في هذه الحياة ليبقى طفلاً وحيداً في هذه الدنيا بغير أب أو أم.
أيها الإخوة الكرام .. لكم أن تتخيلوا صعوبة هذا الأمر على طفل صغير، يفقد أمه وأباه، تُرى هل كان يسأل عنهما؛ كما يفعل الأطفال الصغار؟ وهل مَن حوله أخبروه بموتهما؟ وهل كان يُدرك هذا الطفل الصغير في هذه السن الصغيرة معنى الموت؟!
بل، هل كان يتألم عندما يرى الأطفال مع آبائهم وأمهاتهم وقد حُرِم منهما معاً؟ أم هل كان يُكابد من أجل أن يتخيل صورة أبيه أو يستحضرها في ذهنه، فهو لم يره أبداً؟!
عباد الله .. إن اليتم أمر عظيم وخطب جلل في حياة الأطفال، يستوجب الشفقة والرحمة والرأفة بهم؛ لذا كان حثُّه صلى الله عليه وسلم على اليتيم، فقال: (أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا). وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا. رواه البخاري، (3/1111)، (ح5361).
ويا ليت الأمر توقف عند هذا الحد؛ بل يموت جده لأبيه عبد المطلب، وكان أرأف الناس بحفيده صلى الله عليه وسلم إذ انتقل معه في بيته ليعيش في كنفه ورعايته، ولكن الموت لم يمهله، فيموت وعمره الشريف صلى الله عليه وسلم ثمانية أعوام.
فينتقل إلى عمه أبي طالب ليعيش معه، ولكن كان أبو طالب كثير العيال، قليل المال رغم حسبه ونسبه ومكانته في قومه، فينهض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صبي يرعى الغنم ليخفف من عبء عمه أبي طالب.
أيها الأحبة .. لقد اختار الله تعالى لنبيه الكريم اليُتم لحِكم بالغة وأهداف سامية، لكنه تبارك وتعالى لم يترك خليله، ولم يتخل عنه، بل امتن عليه سبحانه وتعالى: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ﴾ [الضحى: 6]، فا الله تعالى هو الذي آواه ورعاه ورباه، ولكننا مدعوون لنتدارس الحِكم والعبر من وراء يتمه صلى الله عليه وسلم، ومنها:
أولاً: كمال القدوة وشمولها: قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ ﴾ [الأحزاب: 21]، فالنبي صلى الله عليه وسلم أسوة لكل البشر، كبيرهم وصغيرهم، ومن بين الصغار كان اليتامى، ومن بين اليتامى كان يتيم الأب أو الأم أو كلاهما، فكان تحقيقاً لكمال الأسوة النبوية أن يكون يتيم الأب والأم؛ ليجد فيه اليتيم أسوته وقدوته، فهنيئاً للأيتام تشبههم برسولهم الكريم، وهنيئاً لهم اشتراكهم معه صلى الله عليه وسلم في صفةٍ من صفاته وهي اليتم.
فاعلموا - يا رعاكم الله - أن الله تعالى قد اختار لكم ما اختاره لأحب الخلق إليه، وقدَّر عليكم ما قدَّره على نبيكم، فهيا شمروا عن سواعد الجد كما شمَّر نبيكم، وهيا تزيوا بزي الأخلاق والتقوى الذي كان زيه ورداءه صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: ومن الحكم الظاهرة من يتم النبي صلى الله عليه وسلم: أن ينشأ صلباً قوياً بعيداً عن الترف والدعة، فالله عز وجل يؤهل نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم لأعظم مسؤولية في التاريخ والكون، وهي حمل رسالته وتبليغها إلى البشرية كلها، فكان لا بد أن يتدرب على تحمل المسؤولية منذ صغره، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعرف منذ صغره حياة الترف والنعومة، وإنما عاش حياة الفقر والخشونة، فرعى الغنم وهو صبي صغير، وقد أخبر أصحابه رضي الله عنهم، بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَّ رَعَى الْغَنَمَ)، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: (نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ) رواه البخاري، (1/418)، (ح2306).
وقد تعلم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم - منذ نعومة أظفاره - من الرعي سعة الصدر، وطول البال والصبر، واليقظة على رعيته، والعناية بها، والذود عنها، وجمع شاردها، كل هذه الصفات وغيرها ما كان له أن يتعلمها لو عاش في كنف والدين يحملان عنه عبء الحياة، نعم - أيها الإخوة - إن اليتم في جانبٍ منه شاق وعسير، ولكنه في جوانب أخرى قد يكون دافعاً للنجاح في الحياة والتقدم فيها، فالمنحة قد تولد من المحنة، والواقع يؤيد ذلك، فكم من يتيم نجح في حياته وبلغ أعلى المناصب، وكم ممن تربَّوا في كنف أمهاتهم وآبائهم ركنوا إليهم ففشلوا في حياتهم.
وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهض للمسؤولية، فيحمل الرسالة ويبلغها كاملة متحملاً الصعاب في ذلك.
الخطبة الثانية الحمد لله...
ومن الحكم الظاهرة من يتم النبي صلى الله عليه وسلم أن ينسب الفضل كله في حياة النبي إلى الله عز وجل، وقد قال الله تعالى ممتناً على نبيه في ذلك: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ﴾ [الضحى: 6-8].
نعم - أحبتي الكرام - إن الأنبياء جميعاً صِنعة الله تبارك وتعالى، صُنعوا على عينه برعايته وتدبيره لهم، فلا يُتركون وشأنهم وإنما يتعدهم ربهم جل وعلا، فانظروا إلى يوسف الصديق - عليه السلام - خرج صبياً صغيراً من بيت أبيه، فذهب إلى عزيز مصر، حيث الكفر والشرك، فمَن الذي تعهَّده ورباه ورعاه؟ إنه الله تعالى، فهذا يوسف في السجن يدعو إلى التوحيد قائلاً: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف: 39]، وها هو موسى - عليه السلام - حفظه ربه ورعاه؛ بل قال له: ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: 39]؛ ﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾ [طه: 41]، فكانت في موسى - عليه السلام، ولكننا وجدناها تحققت في جميع الأنبياء، وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وإلاَّ؛ بالله عليكم خَبِّروني، مَن الذي صرف نبينا محمداً عن عبادة الوثن والصنم، ومن الذي صرفه عن الفواحش والمحرمات في مجتمعٍ جاهلي مليء بالفتن؛ بل يُشتهر عنه - منذ صغره - الصدق والأمانة، فيُلقَّب بالصادق الأمين ؟! إنه الله تعالى الذي عصمه وربَّاه وآواه وعلَّمه، قال الله تعالى: ﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: 113].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|