شرح حديث ابن مسعود: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"
♦ عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: كأني أنظُرُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًّا من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، ضربه قومُه فأدمَوْه، وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: ((اللهم اغفرْ لقومي؛ فإنهم لا يعلمون))؛ متفق عليه.
♦ وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس الشديد بالصُّرَعة؛ إنما الشديد الذي يَملِكُ نفسَه عند الغضب))؛ متفق عليه.
قَالَ سَماحةُ العلَّامةِ الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -:
ومن الأحاديث التي نقلها النووي رحمه الله في رياض الصالحين، في باب العفو والإعراض عن الجاهلين هذا الحديثَ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًّا من الأنبياء ضربه قومُه حتى أدمَوا وجهه، فجعل يمسح الدم عن وجهه، ويقول: ((اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون)).
وهذا من حِلمِ الأنبياء وصبرِهم على أذى قومهم، وكم نال الأنبياءَ من أذى قومهم!
قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ﴾ [الأنعام: 34]، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم ضربه قومُه حتى أدموا وجهه يقول: ((اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون))، وكأن هؤلاء القوم كانوا مسلمين، لكن حصل منهم مغاضبة مع نبيِّهم ففعلوا هذا معه، فدعا لهم بالمغفرة؛ إذ لو كانوا غير مسلمين لكان يدعو لهم بالهداية، فيقول: اللهم اهد قومي، لكن هذا الظاهر أنهم كانوا مسلمين.
والحق حقه؛ فله أن يسامح وأن يتنازل عنه؛ ولهذا كان القول الراجح فيمن سبَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ثم تاب أنَّ توبته تُقبَل، ولكنه يُقتَل، وأما من سبَّ الله ثم تاب فإن توبته تُقبَل ولا يُقتَل، وليس هذا يعني أن سبَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أعظمُ من سبِّ الله، بل سبُّ الله أعظمُ، لكن الله قد أخبرنا أنه يعفو عن حقِّه لمن تاب منه، فهذا الرجل تاب، فعَلِمْنا أن الله تعالى قد عفا عنه.
أما الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو قد مات، فإذا سبَّه أحد فقد امتهَنَ حقَّه، فإذا تاب فإن الله يتوب عليه ويغفر له كُفْرَه الذي كفَرَه بسبب سبِّه، ولكن حق الرسول باقٍ فيُقتَل.
ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس الشديد بالصُّرَعة))؛ يعني ليس القويُّ الصُّرَعةَ الذي يصرع الناسَ إذا صارعهم، والمصارعة معروفة، وهي من الرياضة النبوية المباحة؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم صارَعَ رُكانةَ بن يزيد، وكان هذا الرجل لا يصرعه أحدٌ، فصارعه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فصرَعَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
فهذا الصُّرَعة هو الذي إذا صارع الناسَ صرَعَهم، وليس هذا هو الشديد حقيقة، لكن الشديد الذي يصرع غضَبَه، إذا غَضِب غلَب غضَبَه؛ ولهذا قال: ((وإنما الشديد الذي يَملِكُ نفسَه عند الغضب))، هذا هو الشديد.
وذلك لأن الغضب جمرةٌ يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم فيفور دمه، فإن كان قويًّا ملَكَ نفسَه، وإن كان ضعيفًا غلَبه الغضبُ، وحينئذٍ ربما يتكلم بكلام يندم عليه، أو يفعل فعلًا يندم عليه.
ولهذا قال رجلٌ للرسول صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: ((لا تغضب))، قال: أوصني، قال: ((لا تغضب))، ردد مرارًا وهو يقول: ((لا تغضب))؛ لأن الغضب ينتج عنه أحيانًا مفاسدُ عظيمة؛ ربما سبَّ الإنسان نفسَه، أو سبَّ دينَه، أو سب ربَّه، أو طلَّق زوجته، أو كسر إناءه، أو أحرق ثيابه، وكثيرٌ من الوقائع تصدر من بعض الناس إذا غضبوا، كأنما صدرت من المجنون.
ولهذا كان القول الراجح أن الإنسان إذا غضب حتى لا يَملِك نفسه، ثم طلَّق زوجته، فإنها لا تطلق؛ لأن هذا حصَلَ عن غلبته ليس عن اختيار، والطلاق عن الغلبة لا يقع كطلاق المُكرَهِ، والله الموفق.
المصدر: «شرح رياض الصالحين» (3/ 607- 610)
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|