فضل تدبر القرآن وتفهمه
يُستحب التعوذ لمن أراد الشروع في القراءة بأن يقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [النحل: 98].
وكان جماعة من السلف يقولون: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فإن قطع القراءة قطع ترك على ألا يعود قريبًا إليها، أعاد التعوذ الأول، وإن تركه قبل القراءة، فيتوجه أن يأتي بها ثم يقرأ؛ لأن وقتها قبل القراءة للاستحباب، فلا يسقط تركها إذًا، ولأن المعنى يقتضي ذلك، فإذا شرع في القراءة فليكن شأنه التدبر، وليحذر أن يكون مثل بعض الهمج يقرأ القرآن وعيونه تجول فيما حوله من المخلوقات، يتلاعب بالقرآن ولا يهتم له؛ قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ﴾ [ص: 29]، وقال تعالى في معرض الإنكار: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24].
فالمؤمن العاقل المحب لله ورسوله تلاوة القرآن وتفهُّمه، عنده ألذ الأشياء وأنفعها لقلبه.
ولا يمل من تلاوته ولا يقنع بتلاوته دون أن يطلب فَهم معاني ما أراد الله عز وجل من تعظيمه وتبجيله وتقديسه، ومحبته وأمره ونهيه وإرشاده وآدابه ووعده ووعيده، ويعلم أنه لا ينال منافع آخرته ولا الفوز بها والنجاة من هلكتها إلا بإتباع القرآن الدال على كل نجاة والمنجي له من كل هلكة؛ قال الله جل وعلا: ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ [طه: 123]، أنزله الله جل وعلا على عباده ليعرفهم به نفسه ويذكِّرهم به أياديه وينبههم به من رقدات الغافلين.
ويحيي قلوبهم وينوِّر أبصارهم، ويشفي صدورهم ويزيل جهلها، وينفي شكوكها ودنسها وزيفها، ويوضِّح سبيل الهدى، ويكشف به العمى والشبهات، ويزيل نوازع الشيطان ووساوس الصدور، ويغني به من فهمه، وينعم به من كرَّر تلاوته، ويرضى به عمن اتبعه.
هو صراط الله المستقيم الذي من سلك ما دل عليه، أوقفه على الرغائب وسلمه من جميع المهالك، وخفَّف عنه أهوال يوم العرض والنشور، وأورده رياض جنات النعيم.
هو حبل الله المتين الذي لا انقطاع له، مَن تمسَّك به نجا؛ قال الله جل وعلا وتقدس لرسوله -صلى الله عليه وسلم -: ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الزخرف: 43].
ومن أعرض عنه عطب؛ قال جل وعلا: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 124].
ومن ابتغى الهدى من غيره ضل، ومن فَهْمه نطق بالحكم، وجرى على لسانه بحسن الموعظة، وكان من العلماء بالله جل وعلا.
ومن عقل عن الله جل ذكره ما قال، فقد استغنى به عن كل شيء وعز به من كل ذل.
لا تتغيَّر حلاوته ولا تَخلَق جِدته في قلوب المؤمنين به على كثرة الترداد والتكرار لتلاوته؛ لأنه كلام الحي القيوم، وكل كلام غير القرآن والأحاديث الصحيحة التي جاءت عن النبي -صلى الله عليه وسلم - فإنها تَمَل من كثرة تردادها.
أما القرآن وما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن المؤمن كل ما كرره ازداد رغبةً ونشاطًا ومحبةً للكلام ولمن تكلم به، وهذا موجود عندنا في فطرنا، فإنا نسمع الكلام ممن نحب من الخلق، ومن نعظم قدره فترتاح لذلك قلوبنا.
فكيف بكلام ربنا رب العالمين الذي خلقنا ورزقنا وأعطانا وآوانا وعافانا وهدانا.
شعرًا:
جميع الكتب يدرك من قراها
فتور أو كلال أو سآمهْ
سوى القرآن فافهم واستمع لي
وقول المصطفى يا ذا الشهامهْ
وقد تكلم به حقيقة، وأنزله على محمد صلى الله عليه وسلم مع الأمين من ملائكته، فالواجب علينا الإصغاء والتفهم لِما يُتلى من كلام ربنا جل وعلا وتقدَّس.
وأنت تعلم أنه إذا كان للذي يُحدثك عندك قدرٌ، أصغيت إلى حديثه باستماع ما يقول وتفهُّم معاني ما يصف، ولو كان يحكيه لك عن حاكٍ، لفعلت ذلك حبًّا منك لقائله وتعظيمًا للمتكلم به، ولو أطلعه الله على قلبك وأنت غافل متشاغل عنه، لا تلقي له بالك ولا تفهم عنه قوله، لأبغضك وعلِم أنك مستهين به ساهٍ عن حديثه، ولا تهتم به ولم تعبأ بفَهم قوله لقلة قدره وقدر حديثه عندك.
ولو كان عندك قدر لأصغيت لحديثه، ولم تَلْهُ عن تفهُّمه، وإنما لهوتَ عن حديث من حدثك من الخلق؛ لأنه غاب عنهم علم ضميرك، ولو كان باديًا وظاهرًا لهم ما فيه، لأحضرت عقلك إليهم، وإلى كلامهم وحديثهم، ولم ترضَ لهم بالاستماع دون الفهم له، ولا بالفهم له دون تحببهم على قدر حديثهم؛ لتُعلمهم أنك قد فهمت عنهم، ولم ترضَ لهم بالجواب دون أن توافقهم، فتعظم ما عظَّموا، وتستحسن ما استحسنوا، وتستقبح ما استقبحوا.
هذا وأكثر حديثهم لغو ولهو وليس فيه منفعة ولا دنيا، ولا حق لهم يؤكِّدونه عليك بقولهم، ولا يرضون عنك بفهمه، ولا تُحب لهم أن يسخطوا عليك إن لم تكن تفهمه وتقوم به.
فكيف بالرب العظيم الكريم الذي سهَّل لك مناجاته، ولم يتكلم به لغو، ولا قاله لهوًا ولعبًا ولا عبثًا، ولا خاطب به سهوًا ولا تفكهًا، تعالى الله عز وجل عن ذلك علوًّا كبيرًا.
وإنما تكلم به مخاطبه قصدًا وإرادةً وتوكيدًا للحجة عليك وعلى خلقه إعذارًا إليهم وإنذارًا.
فعرفنا به أنْ لا إله غيره، وأمرنا بما يرضى به عنا ويقرِّبنا منه، ويوجب لنا جواره والقرب منه، والنظر إليه، ويوجب لنا به إن ركبنا ما يُسخطه عذابه الأليم في خلود الأبد الذي لا انقطاع له ولا زوال ولا راحة.
وندَبنا فيه إلى الأخلاق الكريمة والمنازل الشريفة، وقد قال أصدق القائلين وأوفى الواعدين، إن ما أنزله من كلامه شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين.
فما أحق من غفل عن فَهْم كتابه أن يستحيي من ربه عز وجل، ويأسف على ما مضى من عمره، ومرض قلبه وهو لا يزداد إلا سقمًا ومرضًا وذلك لقلة مبالاته.
ترك طلب شفائه بما قال الله، وتدبر ما تكلم به خالقه ومولاه، وقد رآه مولاه وهو يعتني بفهم كتاب مخلوق وحديثه.
وليس في كتاب هذا المخلوق وحديثه إياه خلود الأبد في النعيم ولا النجاة من العذاب الأليم الذي لا ينقطع.
بل ربما أن فيه ما الاشتغال به ضررٌ عليه، ومسخطةٌ لربه عز وجل، أو لعل فيه ما الاستغناء بغيره أَولى، أو حاجة لا قدر لها أو خبر تافه، أو حاجة بكلفة لا يأمل لها مكافأةً، ولا يحثه على القيام بها إلا خوف عذله ولومه.
فكيف تكون حالنا عند ربنا تبارك وتعالى، وقد علم منا أننا قليل تعظيمنا له.
ونحن لا نعبأ بفهم كلامه وتدبُّر قوله فيما خاطب به، كما نعبأ بفهم كتب عبيده وحديثهم الذين لا يَملكون لنا ولا لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا.
فتبارَك مَن يَملِك ذلك كله إلى أن قال رحمه الله: فغدًا نقدم على الله عز وجل، فنلقاه ويسائلنا عن كتابه الذي أنزل إلينا، مخاطبًا لنا به وكيف فهِمنا عنه، وكيف عملنا به، وهل أجللناه ورهبناه، وهل قمنا بحقه الذي أمرنا به وجانبنا ما نهانا عنه.
ألم تسمع مسائله الجن والإنس جميعًا يوم القيامة بما أقام عليهم به الحجة في الدنيا من تلاوة آياته عليهم من رسله، وأنه قطع بذلك عذرهم، وأدحض به حجتهم، فقال جل وعلا يوم العرض: ﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ﴾ [الأنعام: 130]، وقال جل وعلا: ﴿ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ [المؤمنون: 105]، وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُون ﴾ [الأعراف: 52، 53]؛ انتهى باختصار وتصرف يسير.
شعرًا:
يا رب إن عظمتْ ذنوبي كثرةً
فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا مُحسن
فمن ذا الذي يرجو ويدعو المجرم
أدعوك رب كما أمرت تضرعًا
فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
مالي إليك وسيلة إلا الرجا
وجميل عفوك ثم إني مسلم
اللهم رغِّبنا فيما يبقى، وزهِّدنا فيما يفنى، وهبْ لنا اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعول في الدين إلا عليه، اللهم إنا نسألك بعزِّك الذي لا يُرام، ومُلكك الذي لا يُضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك - أن تكفينا شرَّ ما أهَمَّنا، وما لا نهتم به، وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
اللهم يا عليم يا حليم يا قوي يا عزيز، يا ذا المن والعطاء والعز والكبرياء، يا مَن تعنو له الوجوه وتخشع له الأصوات، وفِّقنا لصالح الأعمال، واكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، إنك على كل شيء قدير، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|