قصة أبي طالب (2)
لو لم يكن من شأنِ أبي طالب إلا أنه عمّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وكفيلهُ، لكان بتلك العمومة الحميدة، والكفالة الرشيدة، جديرًا باهتمام النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعنايته الكريمة، فكيف إذا كان أبو طالب أول الذين عزَّروه ونصروه وشدُّوا أزره، ودافعوا عنه وعن دعوته ما استطاعوا إلى الدفاع سبيلاً؟
ولو أن أبا طالب وهو يُعزِّر النبيَّ صلى الله عليه وسلم ويَنصُره، اتَّبع النورَ الذي أُنزل معه - لكان في طليعة السابقين الأوَّلين، الذين رضي الله عنهم ورضُوا عنه، وأعدَّ لهم جنَّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا، ولكن أضلَّه الله الذي يُضِلُّ من يشاء، ولو تربَّى في بيت النبوَّة والرسالة! ويهدي من يشاء، ولو نشأ في حِجْر الكفر والضلالة ﴿ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الأنعام: 149].
يأس الرسول صلى الله عليه وسلم من هداية عمِّه أبي طالب:
استيئس الرسول - صلوات الله عليه - من هداية أبي طالب بعد أمرين:
بعد أن عرَض عليه كلمةَ التوحيد فردَّها أحوجَ ما يكون إليها، وكان آخر كلامه: هو على دين عبدالمطلب؛ وبعد أن أنزل الله فيه قرآنًا يتلى: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [القصص: 56].
يأسه صلى الله عليه وسلم من الاستغفار له:
ثم استيئس - صلوات الله وسلامه عليه - من الاستغفار له، بعد أن أنزل الله فيه وفي غيره: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [التوبة: 113].
شأن النبي صلى الله عليه وسلم مع عمِّه أبي طالب:
هذا بعض شأن النبي الكريم، ذي الخُلُق العظيم مع عمِّه أبي طالب!
أمنية مِلؤها الحنان والرحمة، أن يهديه الله للإسلام؛ جزاء ما قدَّم له من أيادٍ جِسام، ثم عاطفةٌ يحدوها الألم والأمل، أن يَغفِر الله له، ويهبَه لنبيِّه أكرم الخَلْق عليه، وأقربهم إليه.
ثم رجاءٌ كريم، في ربٍّ رحيم، أن يُشفِّعه فيه، فيُخفِّف عنه عذابَ الخلود في جهنم! لا بتقصير مداه الذي لا ينتهي أبدًا، ولكن بأن يكون أهونَ أهل النار عذابًا يوم القيامة، وإن كان هو يرى أنه أشدُّهم عذابًا!
شفاعته صلى الله عليه وسلم في عمِّه أبي طالب:
وقد حدثنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم من طريق عمه العباس - رضي الله عنه - لما سأله عن أخيه أبي طالب، وعمَّا يرجو من الله له - أن الله تعالى شفَّعه فيه، فجعله في هذا المقدار القليل من النار، ولولا هذه الشفاعة لكان في أسفلها دَرَكًا، وأقصاها مدىً.
أبو طالب أهون أهل النار عذابًا:
وتفسير ذلك - في الصِّحاح - أنه يُوضَع في أخمَص قدميه جمرتان أو نعلان من نار يغلي منهما أمُّ دماغه، كما يغلي المِرجَل والقمقم، وفي رواية يغلي المرجل بالقمقم[3].
وكأنَّ أبا طالب لما زَحزح قدميه عن الدين القيِّم ملَّة إبراهيم حنيفًا، وثبَّتها على مِلَّة عبدالمطلب - ثبَّت الله قدميه في هذا الضَّحضاح جزاءً وِفاقًا.
ولولا كلمةٌ سَبَقَت من ربِّك: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48]، لغُفِر لأبي طالب شِرْكه؛ تحقيقًا لأمنيةٍ طالما تمنَّاها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وتمنَّاها أصحابُه معه؛ إقرارًا لعينه، ومكافأةً لصنيع عمه.
على أن استجابة الله تعالى لهذه الشفاعة النبويَّة الرحيمة - فوق أنها تكريمٌ للنبيِّ - صلوات الله وسلامه عليه - وفضيلةٌ له ولعمه خاصَّة - هوَّنت عليه كثيرًا مما قاسى في هداية عمِّه! ثم كانت أجلَّ وأعظمَ مما قدَّم أبو طالب لدين الله ونبيِّه من صنيعة.
مكرمة لأبي لهب:
ومما يتَّصِل بهذا إكرام الله لنبيِّه بتخفيف عذاب القبر كل ليلة اثنين عن عمِّه أبي لهب، وكان من أعدائه، وأشدِّهم في مُناوأته وإيذائه! وذلك بأنه أعتق جاريته ثُويبة حين بشَّرته بولادته، قالت له: أشعرتَ أنَّ آمنة ولدت لأخيك عبدالله غلامًا؟ فقال لها: اذهبي فأنت حرة.
وقد صحَّ أن أخاه العباس رآه في المنام بعد سنةٍ من وفاته، وكانت بعد وقعة بدر، فقال له: ما حالك؟ قال: في النار بشرِّ حال أو بشر حِيبة[4] إلا أنه خُفِّف عني كل ليلة اثنين أمصُّ من بين إصبعي هاتين ماء، وأشار إلى النقرة التي تحت إبهامه[5].
أداء الله - عز وجل - عن نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -:
وكذلك يريد الله ألا يجعل لأحد دَينًا في عُنق نبيه من مِنَّة أو صنيعةٍ إلا كافأه بها، ولو بَدَت منه عفوًا غير مقصودة.
أليس الذي يجزي أعداء نبيه أحسن مما قدَّموا له من صنيعة - بقادرٍ على أن يجزي أحباءه أضعافًا مضاعفة، وهم الذين آمنوا به وعزَّروه ونصروه واتَّبعوا النور الذي أُنزل معه؟ بلى، إنهم جدراء بأن يُضاعِف جزاءهم، ويؤتيهم من لدنه أجرًا عظيمًا.
المصدر: من ذخائر السنة النبوية؛ جمعها ورتبها وعلق عليها الأستاذ مجد بن أحمد مكي
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|