من الشمائل والصفات المحمدية .. نصرة المستضعفين
كان من أخلاق نبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم - أنه يُسارِع لنجدة المستضعفين، وإغاثة الملهوفين، وإجارة المستجيرين؛ حتى إن كانوا من غير المسلمين.
قال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 6].
ولنقرأ معًا موقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مظلوم استغاث به لإنقاذ حقه، ولنتأمَّل في الظروف الصعبة التي كانت تُحيط بالرسول - صلى الله عليه وسلم - يومَها.
• قدِم رجل من أراش بإبل له إلى مكة، فاشتراها منه أبو جهل بن هشام، وماطَلَه في تسديد أثمانها، فأقبل الأراشي حتى وقف على نادي قريش، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جالِس في ناحية المسجد، فقال: يا معشر قريش، مَن رجلٌ يَنصُرني على أبي جهل بن هشام؛ فإني غريب وابن سبيل، وقد غلبني على حقي؟ فقال أهل المجلس وهم يشيرون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ترى ذلك؟ اذهب إليه، فهو ينصرك عليه.
فأقبل الأراشي حتى وقف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فخرج معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جاء بيت أبي جهل، فضرب عليه بابه.
فقال أبو جهل: مَن هذا؟ قال: ((محمد، فاخرج))، فخرج إليه، وما في وجهه قطرة دم، وقد اصفرَّ وجهه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أعطِ هذا الرجل حقَّه))، فقال أبو جهل: لن يذهب الرجل حتى أعطيه حقَّه، فدخل بيته، ثم خرج إليه بحقه، فدفعه إليه، ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال للأراشي: ((الحقْ لشأنك)).
فأقبل الأراشي حتى وقف على المجلس، فقال: جزاه الله خيرًا، فقد أخذ الذي لي[1].
إن هذه الحادثة من سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العملية، تكشف عن إنسانيَّته ووقوفه إلى جَنْب الإنسان المظلوم واستنقاذ الحق، رغم أن الظالم كان من أعتى طواغيت قريش، ورغم العداوة التي كانت بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبين أبي جهل، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يَعتذِر من الرجل لِمَا يعلم من أبي جهل، بل صَحِبه إلى دار أبي جهل، ووقف بكل جرأة وشجاعة في وجه الظالم يُطالِبه بحق المظلوم.
والموقف كما يكشِف عن مواجهة الظلم والطغيان، فإنه يَكشِف عن الاهتمام بالآخرين، ونُصرة المستضعفين، ومشاركتهم همومَهم، والوقوف معهم لاستنقاذ حقوقهم الشخصية، ويُبرِز معاني المروءة والشهامة الأصيلة التي تدفع المرءَ لارتكاب المخاطر دفاعًا عن المظلومين ونُصرتهم.
وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن عبدالرحمن بن عوف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((شهِدت حِلْف المطيَّبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أُحبُّ أن لي حمر النعم وأني أَنكُثُه))[2].
وفي رواية: ((لقد شهِدت في دار عبدالله بن جُدعان حِلفًا لو دُعيتُ به في الإسلام لأجبتُ؛ تحالفوا أن يردُّوا الفضول على أهلها، ولا يعز ظالم مظلومًا))[3].
وحِلف الفضول كان قبل المبعث بعشرين سنة، وهو أكرم حِلف سمع به وأشرفه في العرب، وكان أول مَن تكلَّم به ودعا إليه الزبير بن عبدالمطلب.
وكان سببه أن رجلاً من زبيد قدِم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل، فحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف عبد الدار ومخزومًا وجمحًا وسهمًا وعدي بن كعب، فأبوا أن يعينوا على العاص بن وائل وزبروه - أي: انتهروه - فلما رأى الزبيدي الشر، أوى إلى أبي قبيس عند طلوع الشمس وقريش في أنديتهم حول الكعبة، فنادى بأعلى صوته:
يا آلَ فِهر لمظلومٍ بضاعتُه
ببطنِ مكة نائي الدار والنفرِ
ومُحرِمٍ أشعثٍ لم يَقضِ عمرتَه
يا لَلرجالِ وبين الحِجر والحَجرِ
إن الحرام لمن تمَّتْ كرامتُه
ولا حرام لثوب الفاجر الغُدَرِ
فقام في ذلك الزبير بن عبدالمطلب وقال: ما لهذا مترك.
فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار عبدالله بن جدعان، فصنع لهم طعامًا، وتحالفوا وتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونُن يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدَّى إليه حقه.
فسمَّتْ قريشٌ ذلك الحِلفَ حِلفَ الفضول، وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر، ثم مشوا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي، فدفعوها إليه.
إن حِلف الفضول كان تجمُّعًا وميثاقًا إنسانيًّا تنادت فيه المشاعر الإنسانية، ومكارم الأخلاق لنصرة الإنسان المظلوم، والدفاع عن الحق المسلوب، وقد أنشأتْه قوى اجتماعية بإحساس وِجداني والتزام أخلاقي بضرورة نُصْرة المستضعفين والمظلومين.
إن هذه الوثيقة التاريخيَّة تَكشِف لنا عن أبرز مبادئ الإسلام الإنسانية على المستوى الدولي، وهي نُصْرة المظلوم، والدفاع عن الحق، بغضِّ النظر عن دين المظلوم ومذهبه وعشيرته وقوميَّته ووطنه.
ويُعطينا هذا الحلف والميثاق دليلاً على تنظيم الإسلام للعلاقات الإنسانية على المستوى الدولي، والحث على الاشتراك مع الآخرين في نُصْرة المستضعفين، وإن كانوا من غير المسلمين، ومن ذلك التعاون مع المنظَّمات الدولية الإنسانية التي تعمل على إغاثة المظلومين ونُصْرتهم، والدفاع عن حقوقهم، ومقاومة الظلم والطغيان في أي بقعة من بِقاع العالم[4].
إن هذه القيمة الأخلاقية الإنسانية من أعظم القيم التي تحتاجها الإنسانية في عالمنا المعاصر، الذي صار عالم التكتلات العدوانيَّة ضد المستضعفين، وعالم المنظمات المسخَّرة لخدمة مصالح القوى العظمى المُتسلِّطة على حساب الضعفاء.
إن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يُعلِن اعتزازَه بالاشتراك بهذا الحلف، الذي عُقِد بالجاهلية قبل الإسلام؛ لِما اشتمل عليه من مبادئَ يُقرُّها الإسلام ويدعمها؛ من إقامة العدل، ونُصرة المظلومين والمستضعفين، وإغاثة الملهوفين، وهذا درس أخلاقي يُقدِّمه نبيُّ الرحمة لكل من يَدَّعون الحرص على حقوق الإنسان، ثم تراهم يكيلون بمكاييل مختلفة بحسب الدين واللون والمصلحة.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|