الكسب الحرام: فساد ودمار
1- مقدمة.
2- خطورة وعاقبة الكسب الحرام.
3- كيف نحفظ أنفسنا من الكسب والمال الحرام.؟
الهدف من الخطبة:
التحذير من الكسب الحرام، وبيان عاقبته في الدنيا والآخرة، وبيان كيف نحفظ أنفسنا ومن نَعُول من الكسب الحرام، لا سيما وقد فُتحت أبوابٌ عديدة للكسب الحرام، وأصبح له صور شتَّى في هذا الزمان.
مقدمة ومدخل للموضوع:
• أيها المسلمون عباد الله، إن الله تعالى حثَّنا على تحرِّي الكسب الطيب الحلال، وتحرِّي أكل الحلال.
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172].
وقال تعالى: ﴿ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [النحل: 114].
• حلالًا: أي: ليس مكتسبًا بطريق محرَّم؛ كالربا، والغش، والسرقة، والرِّشوة.
• طيبًا: أي: ليس بخبيث في ذاته؛ كالميتة، والخمر، والدخان، وغيرها من أنواع الخبائث.
فإن الرزق الحلال الطيب لا بد أن يكون:
• طيبًا في ذاته: أي: ليس محرمًا.
• طيبًا في كسبه: أي: بطريق حلال.
وفي الحديث الصحيح: ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا)).
• وقد أمر الله تعالى بذلك الأنبياء والمرسلين.
فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51].
• وكان من مهام بعثة النبي صلى الله عليه وسلم هو تقرير هذا الأمر.
قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ﴾ [الأعراف: 157].
• وحثَّنا سبحانه وتعالى على البحث عن الرزق الحلال الطيب.
قال الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15].
• وطمْأَنَنا سبحانه وتعالى أن الرزق الحلال الطيب مضمون، قد تكفَّل به جل في علاه.
قال تعالى: ﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ﴾ [الذاريات: 22، 23].
وقال تعالى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [هود: 6].
وقال تعالى: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [العنكبوت: 60].
• بل إن الله تعالى قدَّره وكتبه للإنسان وهو في بطن أمه.
ففي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق: ((إن أحدكم يُجمَع خَلْقُهُ في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويُؤمَر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجَلِهِ، وعمله، وشقيٌّ أو سعيد)).
• إلا أن كثيرًا من الناس في هذا الزمان أصبح لا يبالي بالحرام، ولا يبالي بخطورته وسوء عواقبه في الدنيا والآخرة، لا سيما وقد فُتِحت أبواب عديدة للكسب الحرام، وأصبح له صور شتى؛ وصدق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.
كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ليأتيَنَّ على الناس زمان، لا يبالي المرء مما أخذ المال، أمن الحلال، أم من الحرام)).
الوقفة الأولى: خطورة وعاقبة الكسب الحرام.
وترجع خطورة وعاقبة الكسب الحرام للأمور الآتية:
1- الكسب الحرام تتبُّع لسِكَكِ وخطوات الشيطان، وآكل الحرام قد كفى الشيطان مؤونة إغوائه وإضلاله:
قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 168، 169].
وسياق الآية بعد قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 168].
قال العلماء: من صور تتبُّع خطوات الشيطان البحثُ عن الكسب الحرام.
• وهذا فيه إشارة إلى دور الشيطان وأثره في وقوع الإنسان في الكسب الحرام.
• رُوِيَ عن يوسف بن أسباط رحمه الله: "إن العبد إذا تعبَّد، قال الشيطان لأعوانه: انظروا من أين مطعمه، فإن كان مطعمَ سوء، قال: دعوه يتعب ويجتهد، فقد كفاكم نفسه، فإن عبادته مع أكل الحرام لا تغني عنه شيئًا".
2- الكسب الحرام يمنع من إجابة وقبول الدعاء، ويَحُول بينه وبين ربِّه، ولو أتى بجميع آداب الدعاء، وتحرى جميع أوقات إجابة الدعاء:
• ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكر: الرجل يطيل السفر أشعثَ أغْبَرَ، يمُدُّ يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومَشرَبُهُ حرام، ومَلْبَسُهُ حرام، وغُذِّيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟)).
3- الكسب الحرام يمنع من قبول الأعمال، فلا ينتفع العبد بها:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لا يقبل الله صلاة امرئ في جوفه حرام".
وقال وهب بن الورد رحمه الله: "لو قمت مقام هذه السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل بطنك، أحلال أم حرام؟".
وقال الغزالي رحمه الله: "العبادة مع أكل الحرام، كالبناء على أمواج البحار".
4- الكسب الحرام يُحبِط الأعمال:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا خرج الرجل حاجًّا بنفقة طيبة، ووضع رجلَه في الغَرْزِ، فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لبيك وسَعْدَيكَ، زادُك حلال، وراحلتك حلال، وحجُّك مبرور غير مأزُورٍ، وإذا خرج بالنفقة الخبيثة، فوضع رجله في الغَرْزِ، فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام، ونفقتك حرام، وحجك غير مبرور))؛ [رواه الطبراني].
5- الكسب الحرام لو تصدَّق منه صاحبه، أو أنفق، لم يُقبَل منه صرف ولا عدل:
ففي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تُقبَل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غُلُول)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أدَّيتَ زكاةَ مالِك، فقد قضيتَ ما عليك فيه، ومن جمع مالًا حرامًا، ثم تصدَّق به، لم يكن له فيه أجر، وكان إصْرُهُ عليه))؛ [رواه الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، بإسناد حسن].
قال سفيان الثوري رحمه الله: "من أنفق الحرام في الطاعة، فهو كمن طهَّر الثوب بالبول، والثوب لا يطهر إلا بالماء، والذنب لا يكفِّره إلا الحلال".
6- الكسب الحرام من أسباب غضب الجبار جل جلاله:
قال تعالى: ﴿ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ﴾ [طه: 81].
7- الكسب الحرام من أسباب اللعن والطرد من رحمة الله تعالى:
• فكم من نصوص جاءت فيها لعن لبعض أصحاب المكاسب المحرَّمة.
• فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومُؤْكِلَه، وكاتبه، وشاهدَيهِ.
• ولعن الله الراشي والمرتشي.
• ولعن الله السارق يسرق البيضة، فتُقطع يده، ويسرق الحبل فتُقطع يده.
• ولعن الله من غيَّر مَنارَ الأرض.
• ولعن الله الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها، ومبتاعها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها، وشاربها، وساقيها.
8- الكسب الحرام ممحوق منه البركة مهما كثُرَ:
فكم من نصوص جاءت تبين محقَ بركة بعض المكاسب المحرمة:
قال الله تعالى: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ [البقرة: 276].
قال العلماء: يمحق الربا؛ أي: يُذْهِبُه، إما بأن يُذْهِبَه بالكلية من يد صاحبه، أو يحرِمَه بركة ماله، فلا ينتفع به، بل يعذبه به في الدنيا، ويعاقبه عليه يوم القيامة.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أحدٌ أكْثَرَ من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قِلَّةٍ)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الحَلِفُ مَنْفَقَةٌ للسلعة، مَمْحَقَةٌ للرِّبح)).
وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البيعان بالخَيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيَّنا، بُورِك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما، مُحِق بركة بيعهما)).
9- الكسب الحرام من أسباب العذاب في القبر:
• فكم من نصوص جاءت تبين عذاب بعض أصحاب المكاسب المحرمة.
• آكل الربا: ((في نهر من الدم ويُلقَم الحجارة)).
• ولما قالوا عن الرجل الذي مات يوم خيبر: فلان شهيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلا، إني رأيته في النار، في بردة غَلَّها، أو عباءة)).
• وفي راوية: ((والذي نفس محمد بيده، إن الشَّمْلَةَ لَتلتهب عليه نارًا، أخذها من الغنائم يومَ خيبر، لم تُصِبها المقاسم)).
10- الكسب الحرام من أسباب العذاب في الآخرة:
• فكم من نصوص جاءت تبين عذاب بعض أصحاب المكاسب المحرمة في النار.
قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10].
وفي صحيح البخاري عن خولة الأنصارية رضي الله عنها، قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن رجالًا يتخوَّضون في مال الله بغير حقٍّ، فلهم النار يوم القيامة)).
وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يربو لحمٌ نَبَتَ من سُحْتٍ إلا كانت النارُ أولَى به))؛ [رواه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الترمذي].
نسأل الله العظيم أن يكفيَنا بحلاله عن حرامه، وأن يغنيَنا بفضله عمن سواه.
الخطبة الثانية
كيف نحفظ أنفسنا من الكسب والمال الحرام؟
هي رسالة تحصين لأصحاب الكسب الحلال، ومخرج آمِنٌ لمن وقع في الكسب الحرام:
1- تقوية جانب الإيمان بأن الله تعالى هو الرزاق، وقد تكفَّل برزق عباده:
قال تعالى: ﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ﴾ [الذاريات: 22، 23].
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 58].
• وقد كتبه الله تعالى للعبد قبل ولادته.
• ففي الحديث الصحيح: ((... ثم يرسل إليه الْمَلَكَ فينفخ فيه الروح، ويُؤمَر بأربع كلمات: بكَتْبِ رزقه، وأجَلِه، وعمله، وشقي أو سعيد)).
• ولن تموت نفس حتى تستكمل وتستوفي رزقها.
• قال صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس، اتقوا الله وأجْمِلوا في الطلب؛ فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفيَ رزقها، وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خُذوا ما حلَّ، ودَعُوا ما حرُم)).
• هوِّن على نفسك، واطلب المال من حِلِّهِ.
• وهذه رسالة طمأنينة؛ فما عليك إلا أن تأخذ بالأسباب الشرعية.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أنكم تتوكلون على الله حقَّ توكُّلِهِ، لَرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خِماصًا، وتروح بِطانًا)).
2- الدعاء والتوجُّه إلى الله تعالى وصدق الاعتماد عليه:
قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 17].
• وليكن لسان حالك: ﴿ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴾ [الشعراء: 79].
• واحفظ وحافظ على هذا الدعاء العظيم.
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن مكاتَبًا جاءه، فقال: إني عجَزتُ عن كتابتي، فأعنِّي، قال: ألَا أُعلِّمك كلماتٍ علَّمَنِيهُنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، لو كان عليك مثلُ جبل أُحدٍ دَينًا أدَّاه الله عنك؟ قل: ((اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك))؛ [رواه أحمد، والترمذي، وحسنه الألباني].
3- تقوية جانب الخوف من الله تعالى والحياء منه:
عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استحيوا من الله حقَّ الحياء، قال: قلنا: يا رسول الله، إنا نستحيي والحمد لله، قال: ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الراس وما وعى، والبطن وما حوى، ولْتَذْكُرِ الموتَ والبِلى، ومن أراد الآخرة، تَرَكَ زينة الدنيا، فمن فعل ذلك، فقد استحيا من الله حق الحياء))؛ [رواه أحمد، والترمذي، وحسنه الألباني].
4- القناعة وعدم العَجَلَة في طلب الرزق:
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس، اتقوا الله وأجْمِلُوا في الطلب)).
5- استحضار أنك موقوف ومسؤول عن أموالك كلها:
فعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة، حتى يُسأَلَ عن أربع: عن عمره فيمَ أفناه؟ وعن جسده فيمَ أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل فيه؟))؛ [رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح].
6- استحضار أن النعيم الحقيقي هو نعيم الجنة، وأما نعيم الدنيا فهو إلى زوال:
في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((يُؤتَى بأنعم أهل الدنيا، من أهل النار يومَ القيامة، فيُصبَغ في النار صِبغةً، ثم يُقال له: يا بن آدم، هل رأيت خيرًا قط؟ هل مَرَّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا، والله يا رب، ويُؤتَى بأشدِّ الناس في الدنيا، من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة صبغةً، فيقال له: يا بن آدم، هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مرَّ بك شدة قط؟ فيقول: لا، والله، يا رب، ما مرَّ بي بؤس قط، ولا رأيت شدةً قط)).
• فلا تغترَّ بأموال الأغنياء؛ فمنهم من لا ينام إلا بمسكنات، ومنهم من يرى أنواع وأصناف الطعام ولا يأكله.
7- مطالعة أحوال سلفنا الصالح في تحرِّي الرزق الحلال:
• وقدوتنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يحرِص على تجنُّبِ أكل المال الحرام، هو وجميع أهله، ويحذر شديدَ الحذر من أن تصِلَ لُقْمَةٌ واحدة إلى جوفه.
• قال صلى الله عليه وسلم: ((إني لأنقلب إلى أهلي، فأجد التمرة ساقطةً على فراشي، ثم أرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقةً، فألقيها)).
• وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: أخذ الحسن بن علي رضي الله عنهما تمرةً من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كِخٍّ كِخٍّ))؛ ليطرحها، ثم قال: ((أمَا شعرت أنا لا نأكل الصدقة)).
• وهذا الصِّدِّيق أبو بكر رضي الله عنه يُعلِّمنا تحرِّي الكسب الحلال.
• فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان لأبي بكر رضي الله عنه غلامٌ يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهَّنتُ لإنسان في الجاهلية، وما أُحْسِنُ الكَهانة، إلا أني خدعته، فلقِيَني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده، فقاء كل شيء في بطنه)).
• وفي رواية أنه قال: ((لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتُها، اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق، وخالط الأمعاء)).
• وإن تَعْجَبْ، فعجبٌ للنساء الصالحات، وإليك طرفًا من أحوالهن:
• فهذه امرأة صالحة تُوصِي زوجها وهو خارج لكسب الرزق، فتقول: "يا هذا، اتَّقِ الله في رزقنا؛ فإننا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار".
• وهذه امرأة من الصالحات، أتاها نَعْيُ زوجها وهي تعجِنُ، فرفعت يدها من العجين وقالت: "هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء".
• وهذه امرأة صالحة، أتاها نعْيُ زوجِها والسراج يَقُدُّ، فأطفأت السراج، وقالت: "هذا زيت قد صار لنا فيه شريك".
• ونختم بهذا النموذج الرائع في الورع والخوف من الكسب الحرام.
• فهذا جنيد البغدادي رحمه الله، جاء يومًا إلى داره، فرأى جاريةَ جارِه تُرضِع ولدَه، فانتزع ولده منها، وأدخل أصبعه في فيه، وجعله يتقيأ كل الذي شربه، فلما سُئل، قال: جاري يأكل الربا، يأكل الحرام، وجارية جاري تعمل عنده فهي تأكل الحرام، وجارية جاري ترضع ولدي فهي ترضع ولدي الحرام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنه لا يربو لحمٌ نَبَتَ من سُحْتٍ، إلا كانت النار أولى به)).
ختامًا: كيف تكون التوبة من الرزق الحرام، وكيف التخلص منه؟
فإن المال من جهة الكسب الحرام نوعان:
1- مال محرَّم لذاته: فهذا يجب إتلافه ولا يجوز الانتفاع به؛ كالخمر، والدخان، وسائر أنواع المخدِّرات.
2- مال محرَّم لكسبه: وهذا أيضًا نوعان:
أ- مأخوذ برضا مالكه؛ كالعقود المحرمة الفاسدة، أو ربح تجارة محرمة، فهذا يلزمه التوبة، ولا يلزم رده.
ب- مأخوذ بغير رضا مالكه؛ كالسرقة، والغصب، والرشوة، وغيرها؛ فهذا إما أن يتحلل من أصحابه إن كان يعرفهم، وإما أن يتصدق به للتخلص منه.
فاللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغْنِنا بفضلك عمن سواك.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|