عام الحزن: دروس وعبر
الخطبة الأولى
مقدمة:
تحدثنا في الخطبة الماضية عن الحصار الظالم الذي فرضه المشركون على بني هاشم، وبني المطلب، فباء سعيهم بالخسران؛ لأن عناية الله ترعى المؤمنين، فسخَّر أناسًا سعوا في نقض هذه الصحيفة، وحديثنا في هذه الخطبة عن عام الحزن.
عباد الله، انتهى الحصار في السنة التاسعة، وفي السنة العاشرة من البعثة مات أبو طالب الذي كان يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ماتت زوجته خديجة رضي الله عنها بعد أبي طالب بثلاثة أيام، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لموتهما حزنًا شديدًا، واشتهر هذا العام عند أهل التاريخ والسير بعام الحزن، ونالت قريش منه صلى الله عليه وسلم ما لم تنله في حياة عمِّه أبي طالب.
عباد الله، من المستفادات من هذين الحدثين لواقعنا ما يلي:
1- الموت حق ما منه مهرب: مات أبو طالب الذي كان يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ماتت زوجته خديجة رضي الله عنها بعد أبي طالب بثلاثة أيام، فحان الفِراق، وحزن الحبيب لموتهما، فهل من معتبر؟ يأتي الموت على حين غرة، فتفجع في أحبابك وأقاربك، إنه هادم اللذَّات، ومُفرِّق الجماعات، يأتي بلا استئذان، وسيذوقه كل إنسان، قال الله تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 57].
الموت باب وكل الناس داخله
يا ليت شعري بعد الباب ما الدار
الدار جنة خلد إن عملت بما
يرضي الإله، وإن قصرت، فالنار
ودَّع قبلهما ابنيه القاسم وعبدالله، وودَّع بعدهما ابنه إبراهيم وبناته الواحدة تِلْوَ الأخرى ولم يعش بعده إلا فاطمة رضي الله عنها، وودَّع عمَّه حمزة بن عبد المطلب كما ودَّع الكثير من أصحابه وصلى عليهم، وكان يزورهم بين الفينة والأخرى، إلى أن جاءت أم المصائب بفقده صلى الله عليه وسلم.
الموت حق وليس الدمع مبطله
ولو بكت أسفًا فقد امرئ أمم
لو كان يسلم حي من مصيبته
لجنب المصطفى ما خطه القلم
إن تبك فابْكِ عليه فهي فاجعة
كل الفواجع مما بعدها لمَم
2- الحزن الطبيعي لا ينافي الرضا بالقضاء والقدر: حزن النبي صلى الله عليه وسلم لفقد عمِّه وفقد زوجته راضيًا بقضاء الله وقدره، عالمًا علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، حزنًا طبيعيًّا على عمه الذي كان سندًا له ومدافعًا عنه، فحزن لموته على غير الإسلام، وحزنًا طبيعيًّا على زوجته خديجة التي أحبها وأحبته، فكانت نعم المعين له في دعوته، فاجتمعت عليه مصيبتا فقد السند الداخلي والسند الخارجي ولسان حاله: "إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقكما لمحزونون"، فلم يصدر منه صلى الله عليه وسلم ما يُنافي الرضا بالقضاء والقدر.
3- إنك لا تهدي من أحببت: آمنت خديجة بالنبي صلى الله عليه وسلم وكانت أول من آمن به من النساء، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم زوجةً صالحةً حتى لقيت ربَّها مؤمنةً محتسبةً، لكن عمه على النقيض من ذلك كان للنبي صلى الله عليه وسلم كالأب الحنون الرؤوف المدافع، فكان مما قال له: "اذهب يا بن أخي، فقل ما أحببت، فو الله، لا أسلمك لشيء أبدًا"، ورفض أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ليقتلوه ويعطوه ولدًا غيره قائلًا لهم: "والله لبئس ما تسومونني! أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا والله ما لا يكون أبدًا"، واعتزل معه في الشِّعْب كما رأينا، لكنه لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وعزَّ عليه أن يترك دين آبائه، روى البخاري ومسلم في صحيحهما أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل بن هشام، وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب: "يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمةً أشهد لك بها عند الله"، فقال أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن مِلَّة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على مِلَّة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والله لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْه عنك" فأنزل الله عز وجل: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [التوبة: 113]، وأنزل الله تعالى في أبي طالب، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [القصص: 56].
فما علينا إخواني سوى أن نجتهد فيمن نحب ونأخذ بالأسباب، فنهدي الناس إلى الصراط المستقيم، ولكن لنعلم علم اليقين أن هداية التوفيق بيد الله.
فاللهم اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى، وآله وصحبه ومن اقتفى.
من الدروس المستفادة:
4- اعمل واحصد ثمرات عملك في الآخرة: مات أبو طالب ولم يربح في الآخرة رغم موته على الكفر إلا تخفيف العذاب عنه يوم القيامة، روى أحمد في مسنده (رقم: 1768) عن عباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك، ويغضب لك، قال: "نعم، هو في ضحضاح من النار (أي: ليس في أسافل جهنم)، ولولا ذلك لكان في الدرك الأسفل من النار"، وفي رواية البخاري (رقم: 3885): "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه، يغلي منه دماغه".
أما خديجة رضي الله عنها فقد جاهدت في الله حق الجهاد ولم تنتظر جزاءً ولا شكورًا من أحد، وماتت ولم تر الدعوة تنتشر، ولم تر الوفود تدخل في دين الله أفواجًا، بل ماتت والدعوة مستضعفة، لكنها ساهمت في التأسيس والبناء، وكان حصادها في الآخرة البشارة على لسان جبريل عليه السلام، روى البخاري في صحيحه (رقم: 3820) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام، أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني وبشِّرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه، ولا نصب".
وهكذا إخواني نستفيد أن العمل لا يكون إلا لله وانتظر الجزاء من ربك في جنة عرضها السماوات والأرض.
فاللهم اجعل أعمالنا كلها خالصةً لوجهك الكريم، وأكرمنا بالجزاء الأوفى عند لقائك يا ديَّان، آمين؛ (تتمة الدعاء).
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|