تفسير قوله تعالى:﴿ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَ
قال الله تعالى: ﴿ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾ [ص: 17 - 20].
المناسبة:
لما ذكر اللهُ تعالى في الآية السابقة استخفافَ أهلِ مكة بالوعيد، وما تلفظوا به مِن قولٍ ينمُّ عن خبث طويَّة، مع تهديدهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالقتل، كما رُوي في بعض أسبابِ النزولِ، فقد أمرَ اللهُ نبيَّه في هذه الآية بالصبر على أذاهم.
القراءة:
قرأ الجمهور: ﴿ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ﴾ بنصبهما، وقرئ برفعهما.
المفردات:
(اصبر): احبسْ نفسَك عن الجزع، (داود) من مشاهيرِ أنبياءِ بني إسرائيل، وممن أُوتُوا الملك منهم، (الأيد) مصدر آد الرجل يَئِيدُ أيدًا وإيادًا بكسر الهمزة: إذا قَوِيَ واشتدَّ، ومنه قولهم: أيدك الله تأييدًا، (أواب): رجَّاع، يعني لمرضاة الله تعالى، (سخرنا) أتبعنا، (يسبحن) يُنزِّهْنَ الله تعالى، وَيُقَدِّسْنَهُ بصوت يتمثل لداود عليه السلام، فكان إذا سبَّح جَاوَبَتْهُ الجبالُ بالتسبيح، كما رُوِيَ عن ابن عباس، (العشي) قال الراغب: من زوال الشمس إلى الصباح، وقيل المراد هنا: وقت العشاء الأولى؛ يعني: المغرب، (الإشراق) وقتُ إضاءة الشمس وصفاء نورها، يقال: شَرَقَت الشمس: إذا طلعت، وأَشْرَقَتْ: إذا أضاءتْ وَصَفَتْ، (محشورة) مجموعة إليه، (شَدَدْنا) قوينا، (آتياه) أعطيناه ومنحناه، (الحكمة) النبوة وكمال العلم، والإصابة في الأمور، (فصل الخطاب) البيان الشافي في كل قصد، وقيل: البَيِّنَةُ على من ادَّعَى، واليمينُ على مَن أنكر، وقيل: القضاء بين الناس بالحق، وقيل: كلمة "أما بعد".
التراكيب:
قوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ تعليل لكونه ذا الأيد، ودليل على أن المراد به: القوة في الدين، وقوله: ﴿ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ ﴾: استئناف مَسوق لتعليل قوته في الدين، ويجوز أن يكون استئنافًا لبيان القصة أو التمهيد لها، وقوله: (معه) متعلق بـ(سخرنا)، ويجوز أن يتعلق بقوله: ﴿ يُسَبِّحْنَ ﴾، وإنما قال: معه ولم يقل: له كما قال (ولسليمان الريح)؛ لأنَّ تسخيرَ الجبال له عليه السلام لم يكن بطريق تفويض التصرف الكلي فيها إليه كتسخير الريح لسليمان، بل بطريق الاقتداء به، والمشاركة في العبادة معه، وقوله: ﴿ يُسَبِّحْنَ ﴾ في موضع نصب على الحال من الجبال، وقد وضع موضع "مُسَبِّحَاتٍ" لإفادة الاستمرار التجددي، وأنها يحصل منها التسبيح حالًا بعد حال، وقيل: إن جملة ﴿ يُسَبِّحْنَ ﴾ مستأنفة لبيان التسخير، كأن سائلًا سأل: كيف كان تسخيرها؟ فقيل: يسبحن، وقوله: (والطيرَ) على قراءة النصب معطوفة على الجبال، و(محشورةً) حال من الطير؛ والعامل سَخَّرْنا، وإنما لم يؤتَ بالحال فعلًا مضارعًا كالحال السابقة، أعني ﴿ يُسَبِّحْنَ ﴾؛ لأنه لم يردْ أنها تحشر شيئًا فشيئًا؛ إذ حاشِرُها هو الله تعالى؛ فحَشَرَها جملة أدل على القدرة.
وأما على قراءة الرفع فيهما، فالطير مبتدأ، ومحشورة خبره، وقوله: ﴿ كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ﴾ استئناف مقرر لمضمون ما قبله، وإنما وضع الأواب موضع المسبح؛ لأن الأواب هو التواب، وهو الكثير الرجوع إلى الله، ومن دأبه إدامة التسبيح، والضمير في قوله: (له) قيل: لله تعالى، ومعناه: وكلٌّ مِن داود والجبال والطير لله تعالى كثير الرجوع مديم التسبيح، وقيل: الضمير لداود؛ أي: كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيح داود أوَّاب، والأول أظهر، وقوله: ﴿ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾ مفيد أنَّ الله تعالى جَمَع لداود عليه السلام بين كمال الفهم وكمال النطق.
المعنى الإجمالي:
لا تفزعْ يا محمد بسبب هذه المقولات المؤذية، ولا تجزعْ لما يَتَجَدَّد من أمثالها، وتذكَّر قصة عبدنا الصالح التقي صاحب القوة في الدين، والأوَّاب إلى الله تعالى؛ لقد أتبعنا الجبال معه حال كونها تُقَدِّسُ اللهَ تعالى بتقديسِه وتجاوبه في تسبيحِه، في طرفَي نهاره، كذلك أتبعنَا الطير حال كونها مجموعة إليه، كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيح داود مسبحٌ، وقد قوَّيْنا سلطانه، وأعطيناه النبوَّةَ، ومنحناه كمالَ العلم، وتمام الفهم، وملَّكْنَاهُ زمام الفصاحة.
ما ترشد إليه الآيات:
1- الصبرُ على الأذى.
2- التأسِّي بالصالحين.
3- قوةُ داود في دينه ودنياه.
4- كثرةُ رجوعِه إلى الله.
5- اتباعُ الجبال والطير له.
6- كمالُ قدرة الله تعالى.
7- تسبيحُ الجبال والطير بحمد ربها.
8- قوة سلطان داود.
9- نبوته، وكمال علمه، وثقوب فهمه.
10- فصاحتُه عليه السلام.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|