من صفات عباد الرحمن: خلق الحلم
الحمد لله الذي أمرَنا بالحِلم والصفحِ عمَّن أساء إلينا، سبحانه وتعالى جعل الحلم لأهل الإيمان زَيْنًا وحُسْنًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تصديقًا وإيمانًا، شهادةً تُنْجِينا من جَميع الأهوال والآفاتِ في دُنيانا وآخِرتنا، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله حبيبُنا وشَفيعنا، كان يتخلَّق بالحِلم ويأمر به أُمَّته تبليغًا لها وبيانًا، اللهُمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وأصحابِه أهلِ الفضل علينا، وعلى كل مَنْ تَبِعَهم إلى يوم الدين إيمانًا وإحسانًا ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، أما بعد:
فيا أيها المؤمنون والمؤمنات، إن لِربِّنا الرحمنِ عبادًا أَحَبَّهم وزادهم من فضله، وشرَّفهم وفضَّلَهم بأن أضافهم إلى عُبوديَّتِه، ووعدهم بالفوز بدخول الجنةِ دار ِكرامته، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم بفضله ورحمته.
عباد الله، من أوصاف عباد الرحمن: خُلُقُ الحِلْم، قال الله تعالى عنهم: ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63] ومعنى الآية كما يقول الحسن البصريُّ رحمه الله: «حلماءُ إن جُهِل عليهم لم يَجْهلوا»[1]، ويُعرِّف العلماءُ الحِلْمَ بقولهم: "الحِلْم: ضبط النفس عن هَيَجَان الغضب"[2]، فعباد الرحمن إذا سَفِهَ عليهم الجُهَّال، وأساؤوا إليهم وقلَّلُوا معهم الأدب، لم يقابلوهم بالمثل؛ بل يَعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيرًا[3].
عباد الله، تَمُرُّ بالإنسان مواقفُ كثيرةٌ في حياته؛ في بيته وأسرتِه، ومسجده وعمَلِه، في سوقه وطريقِه ووظيفتِه، مواقفُ قد يتعرض فيها للإساءة والاسْتِفزاز، أو سبٍّ أو شتم أو قلةِ أدَبٍ واحترام؛ مما يجعله يغضب، ولو اتَّبَع الإنسان غضبه لَأوْقَعَه في الهلاك؛ لأن الغضب أساسُ كثير ممَّا نعيشه من المشكلات، فكم من رجل طلَّق زوجته ثم يعتذر بعدها بأنه كان في لحظة غضب! وكم من واحدٍ اعتدى على أخيه بالسَّبِّ والضرب، ثم يعتذر بعدها بأنه كان غاضبًا! وكم من إنسان في السجون بسبب جريمة القتل، ولو سألته عن السبب لقال: كنت في لحظة غضب!
فاحتاج المسلم إلى هذا الخُلُق الكريم؛ لكي يَحدَّ من شرِّ الغضب ويُوقفَه، ويـَمنعَه ويحبِسَه، ويقابلَ من أساء إليهِ بالإحسان، ويقابلَ من جهِل عليه بالسلام، ويعفوَ ويتسامحَ، ويتجاوزَ ويتصافح، جاءَ جاريةُ بنُ قدامة رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أَوْصِنِي، قَالَ: ((لا تَغْضَبْ)) فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: ((لا تَغْضَبْ))[4]، والمعنى: لا تُنَفِّذْ غضبك، فليس العيب في أن يغضب الإنسان، وإنما العيب استخدامُ اليد واللسان[5]؛ ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((...إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ))[6].
هنا نقفُ بكم وقفةً مع قصة ابنَيْ آدم؛ قابيل وهابيل، لـمَّا تقرَّبا بِقُربان إلى الله تعالى، تُقبِّل من أحدهما ولم يُتقبَّل من الآخر، فغضب قابيل وقال لأخيه: لأقتلنَّك، فقال له هابيل كما قال الله تعالى: ﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ﴾ [المائدة: 28]، قال العلماء: إن هابيل كان أشدَّ قوةً، لكنه رفض أن يـَمَسَّ أخاه بسوء، إلا أنَّ قابيل طَوَّعت له نفسُه قتل أخيه، فقتله فأصبح من الخاسرين ومن النادمين، فانظروا -رحمكم الله- إلى هابيل كيف اتَّصَف بخُلُق الحِلْم وامتنع عن قتال أخيه والإساءة إليه؟! وانظروا إلى قابيل كيف اتَّبَع غضبه فأهلكه، وخسر دنياه وآخرته.
أيها الإخوة، لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكِرام أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في التخلُّق بالحِلْم.
بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، إذْ أدْرَكَه أعرابيٌّ فجبذ بردائه جبذةً شديدةً، أثَّرت على عاتق النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا محمدُ، مُرْ لي من مالِ الله الذي عندك، هذا الأعرابي كان قاسيًا في كلامه، وشديدًا في تعامُلِه مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بإمكانه صلى الله عليه وسلم أن يمنعَ عنه العطاء وينهرَه، ويعاقبَه على قسوته ويزجرَه؛ لكنَّ حِلْمَه يسبق غضبه، وعفوَه يَسبق انتقامَه «فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فضحك ثم أمر له بعطاء»[7]، يا سبحان الله العظيم، أخلاقٌ لا تصدر إلا من صاحب قلبٍ حليمٍ، كلُّه تسامُحٌ وصَفْحٌ وتجاوُزٌ عن عَثَرات الآخرين.
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل عليه عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْن فقال له: يا بن الخطاب، واللهِ ما تُعْطِينَا الجَزْلَ وَلا تَحْكُمُ بيننا بِالعَدْلِ (ما تعطينا العطاء الكثير وأنت ظالم) فغضب عمر حتى هَمَّ أن يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ له الحُرُّ بْنُ قَيْسٍ: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199] وإن هذا من الجاهلين «وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ»[8]، هكذا يكون أهل الإيمان، حتى وإن غضبوا يمسكون اليد واللسان، وُقوفًا عند توجيهات وتعاليم القرآن.
وكان معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه عظيمًا في حِلْمِه، وكَظْمِ غيظِه وعَفْوِه، جلس يومًا على المنبر، فقام إليه أبو مسلم الخَوْلاني وقال: «يا معاوية، إنما أنت قبر من القبور..-وقال كلامًا شديدًا- فقال له معاوية: «يرحمك الله يرحمك الله»[9]، وفي مجلس آخر أسمَعَه رجلٌ كلامًا سيئًا شديدًا، فقيل له: لو سَطَوت عليه؟(أي: لو عاقبته)، فقال: «إني لأستحيي من الله أن يضيق حِلمي عن ذنبِ أحدٍ من رعيتي»[10]، فالحليم حقًّا من يواجه جهالة الناس بالسلام، وإساءتهم بالإحسان، ويتَقبَّلُ أخطاء الناس بعيدًا عن الغضب والانفعال، ويكونُ هادئًا مرتاح البال، ويعفُو ويصفحُ ويتجاوزُ تَقرُّبًا إلى الله الكبيرِ المتعال، فاللهُمَّ زَيِّنَّا بـِخُلُق الحِلْم يارب العالمين، نفعني الله وإيَّاكم بالقرآن العظيم وبحديث سيِّد المرسلين، وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين، والحمد لله رب العالمين، ادعوا الله يستجِب لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أما بعد:
فيا عباد الله، قد يصادف الواحد مِنَّا في حياته، جاهلًا يسُبُّه ويشتمه، أو سفيهًا يُؤذيه ويلعنُه، أو حتى قريبًا يسيءُ إليه ويُغضِبُه، ثم يتساءل: كيف أتخلَّقُ بـِخُلُق الحِلْم في هذا الموقف الصعب؟ الجواب في خطوتين:
أولهما: السكوت؛ لا تُجِبِ السَّفيه ولا تَرُدَّ عليه، حتى وإن ردَدْت عليه فلا تقل إلا خيرًا، يُروى أن رجلًا قال لضِرار بنِ القعقاع: والله، لو قلتَ كلمةً واحدةً لسمعتَ عشْرًا، فقال له ضرار: والله، لو قلتَ عشْرًا لم تسمعْ واحدة[11].
ثم اعلم أنك ما دمتَ ساكتًا أن ملائكة الرحمن بجانبك، تَرُدُّ عليه وتدافعُ عنك، فهذا سَيدُنا أَبو بَكْرٍ رضي الله عنه شَتَمَه رجلٌ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ أبو بكر بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَامَ، فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ، فسأَله عن السبب، فقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، وَقَعَ الشَّيْطَانُ (أي: حضر الشيطان)، فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ))[12].
ثانيهما: استحضارُ أنَّ لكَ الجنة -إن شاء الله- قد يُسمعك السفيه ما يغضبك، ويُسمعك الجاهل ما لا يُعجبك؛ لكنك تصبر ولا تُعيره اهتمامًا، وتكون كما قال الإمام الشافعي:
يُخاطِبُني السَّفيهُ بِكُلِّ قُبحٍ
فَأَكرَهُ أَن أَكونَ لَهُ مُجيبا
يَزيدُ سَفاهَةً فَأَزيدُ حِلْمًا
كَعودٍ زادَهُ الإِحراقُ طيبا[13]
وما هذا إلا لأنك ترجو أن تنال أجر عباد الرحمن الذين وعدهم الله بالجنة والرضا والرضوان ﴿ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ﴾ [الفرقان: 75، 76] فاللهُمَّ اجعلنا منهم بفضلك ورحمتك يا رب العالمين.
هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على النبي الأمين، فقد أمركم بذلك مولانا الكريم، ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، اللهُمَّ صَلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت وسلمت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
وارْضَ اللهُمَّ عن الأربعة الخلفاء الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة الأكرمين، خصوصًا الأنصار منهم والمهاجرين، وعن التابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|