حديث: من أعمر عمري فهي له ولعقبه
عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالعمرى لمن وهبت له.
وفي لفظ: "من أعمر عمري فهي له ولعقبه، فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث".
وقال جابر: إنما العمرى التي أجازها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها.
وفي رواية لمسلم: "أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فإنه مَن أعمر عُمرى فهي للذي أعمرها حيًّا وميتًا ولعقبه".
قوله: (قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالعُمرى لمن وهبت له)، وفي حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "العُمرى جائزة".
قال البخاري: باب ما قيل في العمرى والرقبى، أعمرته الدار فهي عمرى جعلتها له ﴿ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ [هود: 61] جعلكم عمارًا[1].
قال الحافظ: (العمرى مأخوذة من العمر، والرقبى مأخوذة من المراقبة؛ لأنهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، فيعطي الرجل الدار ويقول له: أعمرتك إياها؛ أي: أبحتها لك مدة عمرك، فقيل لها عمرى لذلك، وكذا قيل لها: رقبى؛ لأن كلًّا منهما يرقب متى يموت الآخر لترجع إليه، وكذا ورثته، فيقومون مقامه في ذلك، هذا أصلها لغة، وأما شرعًا فالجمهور على أن العمرى إذا وقعت كانت ملكًا للآخذ، ولا ترجع إلى الأول إلا إن صرَّح باشتراط ذلك[2].
قوله: (أمسكوا عليكم أموالكم)، في رواية لمسلم من طرق أبي الزبير عن جابر قال: جعل الأنصار يعمرون المهاجرين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تفسدوها" الحديث.
قال الحافظ: (فيجتمع من هذه الروايات ثلاثة أحوال: أحدها: أن يقول هي لك ولعقبك، فهذا صريح في أنها للموهوب له ولعقبه، ثانيها: أن يقول هي لك ما عشت، فإذا مت رجعت إلي، فهذه عارية مؤقتة وهي صحيحة، فإذا مات رجعت إلى الذي أعطى، وبه قال أكثر العلماء، ثالثها: أن يقول أعمرتكها ويُطلق، فرواية أبي الزبير هذه تدل على أن حكمها حكم الأول، وأنها لا ترجع إلى الواهب، وهو قول الشافعي في الجديد والجمهور، قال: وقد روى النسائي أن قتادة حكى أن سليمان بن هشام بن عبدالملك سأل الفقهاء عن هذه المسألة، أعني صورة الإطلاق، فذكر له قتادة عن الحسن وغيره أنها جائزة، وذكر له حديث أبي هريرة بذلك، قال: وذكرته عن عطاء عن جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك، قال: فقال الزهري إنما العمرى؛ أي: الجائزة إذا أعمر له ولعقبه من بعده، فإذا لم يجعل عقبة من بعده، كان للذي يجعل شرطه، قال قتادة: واحتج الزهري بأن الخلفاء لا يقضون بها، فقال عطاء: قضى بها عبدالملك بن مروان، وقال أيضًا: قال بعض الحذاق إجازة العمرى والرقبى بعيد عن قياس الأصول، ولكن الحديث مقدَّم، ولو قيل بتحريمهما للنهي وصحتهما للحديث لم يبعد، وكان النهي لأمر خارج، وهو حفظ الأموال، ولو كان المراد فيهما المنفعة كما قال مالك، لم ينه عنهما، والظاهر أنه ما كان مقصود العرب بهما إلا تمليك الرقبة بالشرط المذكور، فجاء الشرع بمحاكمتهم، فصحح العقد على نعت الهبة المحمودة، وأبطل الشرط المضاد لذلك، فإنه يشبه الرجوع في الهبة وقد صح النهي عنه وشبه بالكلب يعود في قيئه، وقد روى النسائي من طريق أبي الزبير عن ابن عباس رفعه: العمرى لمن أعمرها والرقبى لمن أرقبها، والعائد في هبته كالعائد في قيئه، فشرط الرجوع المقارن للعقد مثل الرجوع الطارئ بعده، فنهى عن ذلك وأمر أن يبقيها مطلقًا، أو يخرجها مطلقًا، فإن أخرجها على خلاف ذلك، بطل الشرط وصح العقد مراغمة له، وهو نحو إبطال شرط الولاء لمن باع عبدًا كما تقدم في قصة بريرة)[3]؛ انتهى.
وعن جابر أيضًا "أن رجلًا من الأنصار أعطى أمه حديقة من نخيل حياتها، فماتت فجاء إخوته، فقالوا: نحن فيه شرع سواء، قال: فأبي فاختصموا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقسمها بينهم ميراثًا"؛ رواه أحمد.
قال في الاختيارات:
وتصح العمرى ويكون للمعمر ولورثته إلا أن يشترط المعمر عودها إليه، فيصح الشرط وهو قول طائفة من العلماء، ورواية عن أحمد[4].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|