العلَّامة الشيخ المُحقق أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن درويش الحوت البيروتي الشافعي العَلَوي هو أحد أبرز العُلماء المُسلمين في بيروت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والعقد الأوَّل من القرن العشرين. يرجع بنسبه إلى أهل بيت الرسول محمد، وتحديدًا إلى السادة الأشراف آل أبي علوي. أخذ معظم علومه عن والده الشيخ محمد الحوت، ثمَّ ارتحل إلى دمشق فأخذ عن جملة من علمائها. اشتهر بزهده وتواضعه وحبّه لأعمال الخير، حيث قضى حياته مهتمًا بأعباء التعليم والدعوة إلى الإسلام والعمل الاجتماعي. عمِلَ إمامًا للجامع العمري الكبير، وتولّى منصب نقيب السادة الأشراف، كما كان رئيسًا لجمعيَّة المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة لمرتين، وأيضًا قام بمقام مفتي الولاية بعد وفاة المفتي السابق الشيخ عبد الباسط الفاخوري عام 1905م.ساهم الشيخ عبد الرحمن الحوت ببناء وترميم غالبيَّة مساجد وجوامع وزوايا وتكايا بيروت خلال فترة حياته، وعُرف عنه أنه أنفق أغلب ماله في ذلك، وتنازل عن كُل ما قُدِّم له على الصعيد الشخصي لصالح المسلمين في بيروت، حتّى لقَّبه البيارتة بالوَلِيّ واعتبروه من أولياء الله الصالحين. وَفد عليه عدد من علماء المسلمين للدراسة، وتخرَّج على يديه عدد من أعلام النهضة الحديثة في لبنان وبلاد الشام وبعض أنحاء الوطن العربي، وكان محبوباً من المسيحيين من أبناء المدينة الأصليين (الروم الأرثوذكس) والنازحين من الجبل حديثي الاستقرار (الموارنة) نظراً لبُعد نظره وتسامحه الواسع ولأنَّه ابن الشيخ محمد الحوت «الكبير» الذي لعب دورًا بارزًا في حماية وإيواء الكثير من فقراء النصارى النازحين من جبل لبنان خلال مجازر سنة 1860م. ولمَّا توفي عبد الرحمن الحوت شُيِّع في جنازة كبيرة شارك فيها آلاف البيارتة، ودُفن في جبَّانة الباشورة، عند أطراف بيروت القديمة.
آل الحوت
نظرًا لانتشار اسم «الحوت» فقد أطلق على عِدّة قبائل وعشائر وبطون، تعود بجذورها إلى قبائل اليمن وشبه الجزيرة العربيَّة، وقد أسهمت في ظل الخلافتين الراشدة والأمويَّة في فتوحات مصر والشام والعراق والمغرب والأندلس، فانتشرت في كل تلك البلدان بنسبٍ متفاوتة. وما تزال قبائل الحوت والحوثيين من أهم وأقوى قبائل اليمن في الفترة المعاصرة. كما أنَّ اليمن شهدت مدينة «حوت» القديمة، وكذلك الشام التي شهدت قرى وبلدات باسم «حوت» و«كفر حوت». حيث ظهرت هذه الأسرة في بلاد الشام ومصر، يقول الأستاذ نعّوم شقير: «الحوتة من قبائل مصر تنتسب إلى عرب الحجاز وتُقيم في مُديريَّة الفيّوم»، وقال أيضًا: «الحوتيَّة من قبائل العرب في دارفور بالسودان المصري، غربي كبكبيه»، وأتى على ذِكر أنَّ «الحوتيَّات» هي فرقة من عشيرة المشاقبة التي منازلها حول المدوّر من قبيلة بني حسن التي منازلها حول جرش بالأردن. وذَكَر القلقشندي في مؤلفه «نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب» أنَّ بني الحوت بطنٌ من كِندة من القحطانيَّة، وأنَّ «حوت» هو الحارث بن الحارث بن معاوية بن ثور وهو كِندة.بينما أسرة الحوت ببيروت هي إحدى أبرز الأسر البيروتيَّة اللبنانيَّة العربيَّة المسلمة، والراجح بحسب الباحثين أنَّ عائلة الحوت بمصر تعود بنسبها إلى هذه القبيلة. ومن مصر نزل فريق منها بيروت ومنهم ظهرت السُّلالة البيروتيَّة من آل الحوت. وقد تتبع علماء الأنساب أصول أفراد هذه الأسرة حتى البيت النبوي، فالجدّ الأعلى لهم هو أحمد الحوت بن عبد الله بن أحمد بن أبي بكر الورع بن أحمد بن الفقيه المقدم محمد بن علي بن محمد صاحب مرباط بن علي خالع قسم بن علوي بن محمد بن علوي بن عبيد الله بن أحمد المهاجر بن عيسى بن محمد النقيب بن علي العريضي بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن الإمام علي بن أبي طالب، والإمام علي زوج فاطمة بنت محمد ﷺ.
مولده ونشأته
وُلد عبد الرحمن الحوت في مدينة بيروت سنة 1846 م، وهو نجل شيخ مشيخة بيروت العلَّامة الإمام محمد الحوت «الكبير» صاحب الخمسة وثلاثين مؤلفًا في العلوم الدينيَّة كافَّة. وكانت ولادته في منزل والده في محلَّة باب يعقوب جنوبي بيروت القديمة، وكان له عدَّة أشقاء منهم: عبد الله، وسليم، وجميل، ومحمد. تلقّى عبد الرحمن الحوت العلم على يد والده الشيخ، وفي مدارس وكتاتيب بيروت، ودرج منذ حداثته على حضور حلقات التدريس التي كان يقيمها العلّامة والده في بيته، وفي المساجد، فتأثَّر به وانتهج نهجه في حياته لاحقًا. حفظ القرآن استظهارًا وترتيلًا وأحكامًا، وشغف بعلم الفقه والحديث وهو ابن اثنتيّ عشرة سنة، فغاص ببحور تلك العلوم ونهل منها الشيء الكثير، وما أن بلغ الثامنة عشرة من عمره حتى كان قد أتقن التلاوة والتجويد وتمكَّن من العلوم الشرعيَّة الأساسيَّة. وقد وجَّه انتباهه منذ ذلك الوقت إلى العمل الخيري في الميدان الثقافي والاجتماعي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسعي وراء كل قصد خيري، وذلك من خلال عمله في نجدة الفقراء والمحتاجين كعمله في اللجنة الخيريَّة الإسلاميَّة، والاشتغال في التدريس، كما تابع الدعوة التي بدأها والده من قبل، وهي الهادفة إلى التفاهم والتآخي بين السنَّة والشيعة؛ لأنَّ خلافاتهما تؤدي إلى تصدّع الوحدة الإسلاميَّة، والتآخي بين المسلمين والمسيحيين في بيروت وباقي الشام والبلاد العثمانيَّة كي يكون المجتمع منيعًا بوجه الاستعمار الهادف إلى اختراق الدولة العثمانيَّة من خلال الخلافات والصراعات سواء بين المسلمين أنفسهم، أو بين المسلمين والمسيحيين.
وفاة والده
الجامع العمري الكبير كما يبدو اليوم. كان أكبر جوامع بيروت طيلة فترة كبيرة من الزمن، وأمَّه عدد من العلماء البيارتة الكِبار في مقدمتهم الإمام محمد الحوت الكبير ونجله الشيخ عبد الرحمن الحوت.
ليلة يوم الأربعاء في 8 ذي الحجَّة 1276 هـ، المُوافقة لأواخر يونيو سنة 1860م،
توفي الإمام محمد الحوت «الكبير» بعدما مرض برهة يسيرة، وصُلّيَ عليه في الجامع العُمري الكبير بمشاركة رسميَّة عثمانيَّة وبيروتيَّة وإسلاميَّة، وشُيِّع في جنازة شاركت فيها كل طوائف بيروت ورجال الدين البيارتة من مسلمين ومسيحيين ويهود، وحُمل نعشه إلى خارج المدينة حيث دُفن في جبَّانة الباشورة. وقد رثاه الكثير من الشعراء والأصدقاء، منهم: حسين بيهم العيتاني، والشيخ قاسم أبو الحسن الكستي، والشيخ ناصيف اليازجي، والشيخ إبراهيم الأحدب، والشيخ محمد الشهَّال الطرابلسي، والشيخ محمود الخماش النابلسي، والشيخ مصطفى نجا في تقريظة كتاب «الدرَّة الوضيَّة».
إمامة الجامع العمري الكبير
شُغرت إمامة الجامع العمري الكبير بوفاة الإمام محمد الحوت، فتولّى الشيخين عبد الرحمن ومحمد أفندي إمامة صلاتيّ الظهر والعصر فيه خلفًا لوالدهما وفقًا لِنظام توجيه الجهات.(1) وقد استمرّا يقومان بهذه المهمة سويًّا حتى وفاة الشيخ محمد أفندي، فتابعها الشيخ عبد الرحمن حتى تاريخ وفاته. وكان لا بد لإمام الجامع العمري أن يشتهر بين أبناء المدينة نظرًا لأنه كان أكبر مساجد بيروت حتى ذلك الوقت، وكان الجامع الرئيسي الذي تُقام فيه الاحتفالات الدينيَّة ذات الطابع الرسمي الشعبي، والتي كانت من تقاليد وشعائر الأمَّة الإسلاميَّة، ومن تلك الاحتفالات: عيديّ الفطر والأضحى وذِكرى المولد النبوي وذِكرى الإسراء والمعراج وليلة النصف من شعبان وليلة القدر، وكانت تُقام الصلاة الجامعة، وعلى الخصوص صلاة العيدين.
وهكذا كانت بداية تعرّف البيارتة على الشيخ عبد الرحمن الحوت، وتنامت مع مرور الوقت.
أعماله
عُيّن الشيخ عبد الرحمن الحوت نقيبًا للسادة الأشراف في ثغر بيروت في شهر رجب سنة 1319 هـ، المُوافق لشهر نوفمبر من سنة 1901م، وكانت له أعمال خيِّرة كثيرة في نجدة المحتاجين وإغاثة الفقراء والمساكين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد أورد معجم المؤلفين في تعريف عبد الرحمن الحوت: «عبد الرحمن الحوت واعظ له مراقي السعادات في الحث على أداء الصلوات في أوَّل الأوقات والزجر عن تركها والتهاون بها وتأخيرها». وقد استمر في هذا المنصب مدَّة ست عشرة سنة. وفي سنة 1908م انتُخب رئيسًا لجمعيَّة المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة، وبعد انقضاء مدته القانونيَّة أُعيد انتخابه رئيسًا لها بالنظر للفائدة الأدبيَّة والدينيَّة التي أحيطت بها الجمعيَّة وما حصل فيها من تقدّم ملموس. بعد إعلان الدستور العثماني (القانون الأساسي) عقب الانقلاب الذي حصل من قِبل جمعيَّة الاتحاد والترقي على السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1908م، تشكَّلت في بيروت جمعيَّة دينيَّة تضم ثلاثين عالمًا من علماء بيروت تحت اسم «الجمعيَّة العلميَّة الإسلاميَّة»،
وانتخبت الشيخ عبد الرحمن الحوت رئيسًا لها، وكانت غايتها في تلك الظروف خدمة العِلم والدين والدعوة إلى الخير.
فضلًا عن وظيفته كنقيب للأشراف في ولاية بيروت، كان الشيخ عبد الرحمن الحوت مديرًا للمعارف، وعضوًا في لجنة التعليم الإسلاميَّة، والتي تألَّفت من نخبة من العلماء والأدباء، واهتمَّت كما يدل اسمها بالتربية والتعليم، وأسست مدرسة خاصَّة لهذا الهدف بلغت نفقات بنائها وبعض أثاثها 68,195 قرشًا،
وضمَّت المدرسة نحو 150 طالبًا. وكان الشيخ عبد الرحمن الحوت عضوًا دائمًا في المجلس الملّي الإسلامي، وهو المجلس الذي ارتأى المفكرون المسلمون أن يكون لأبناء المدينة المسلمين ما لسائر الطوائف الأخرى، مجلسٌ ملّي يجمع كلمتهم ويهتم بسعادتهم وينشر لواء العلم والمعرفة ويُزيل ما قد يحدث من الاختلاف أو سوء التفاهم بينهم، ويوثق عرى الاتحاد والائتلاف بينهم وبين سائر الطوائف البيروتيَّة، ويؤيّد الحكم الدستوري الشوري. وكان عبد الرحمن الحوت أيضًا من أصحاب الحضور الدائم في مراسم الاحتفال التي تقيمه الحكومة العثمانيَّة بتلاوة فرمان أخذ العسكر في كل سنة. وذلك كلّه بالإضافة إلى إقامته المساجد وإصلاحها وترميم المُتداعي منها، وإقامة سور جبَّانة الباشورة، واهتمامه بتطوير المدارس ولا سيَّما تلك التابعة لجمعيَّة المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة، والذي عمل على إصلاحها وتطويرها.
دوره في بناء وترميم مساجد بيروت
بيروت خلال أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كانت جميع مساجد المدينة القديمة والتاريخيَّة تقع ضمن هذه الحدود الضيِّقة.
بعد أن أصبحت بيروت مركزًا لولاية بيروت سنة 1888م، أخذت تكبر من حيث اتساع رقعتها وعدد أهلها لا سيَّما بعدما تخطى عمرانها تلك المساحة الضيقة التي كانت محصورة فيها داخل السور، ولمَّا أمر إبراهيم باشا المصري سنة 1831م بفتح أبواب هذا السور وبادر الناس باقتناء البيوت خارجه في الأماكن المحيطة بالمدينة، وهي الأماكن التي عُرفت في ذلك الحين باسم «ضواحي بيروت»، وما أن انتشرت المساكن في هذه الضواحي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حتى أصبحت الحاجة تستدعي تأمين المساجد للمناطق المأهولة التي أصبحت مع الزمن جزءًا من المدينة نفسها، فتنادى المسلمون أفرادًا وجماعات وأخذوا على عاتقهم تشييد المساجد في الأحياء المستجدَّة خارج سور المدينة.
وكان للشيخ عبد الرحمن الحوت فضل كبير لإثارة الهمم لتشييد أكثر المساجد خارج حدود بيروت القديمة، وكان يُشرف بنفسه على بنائها ويتولّى الاتصال بالأعيان والوجهاء وأهل الثراء ويستدرّ أكفَّهم لإنشاء المساجد الجديدة. يقول الشيخ طه الولي: «لا بدَّ من أن نذكُرَ بالخير والثناء والتقدير عالميّ بيروت الكبيرين: الشيخ عبد الله خالد والشيخ عبد الرحمن الحوت ابن الشيخ محمد الحوت الكبير، طيَّب الله ثراهما وأكرم في الدار الآخرة مثواهما. فهذان الرجلان الصالحان، كان لهما القدح المُعلّى في إثارة الهمم لِبناء المساجد لا سيَّما في ضواحي المدينة. وأكثر المساجد التي لا تزال موجودة حتى الآن خارج حدود "بيروت القديمة" إنَّما بُنيت بجهودهما